خاطرة..واشعاعات
في الايام الاخيرة التي لا تزال تفصلنا عن نهاية العام الدراسي الحالي.. والتي خرج فيها استاذنا الشيخ حسين الوحيد الخراساني عن منهجية بحثه التي تتناول قاعدة اليد ليدخل منها الى الحديث عن مسألة فدك التي كانت بيد الزهراء عندما استولى عليها الخليفة الاول، وتفرع البحث ليصل الى الحديث المتواتر عن النبي (ص) مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح .. وقد مضى اسبوعان او اكثر وهو يتابع بحثه حول هذا الحديث، واعتقد انه سيستمر طوال الايام العشرة الباقية التي ينهي بها ابحاث هذه السنة..
خرجت صبيحة هذا اليوم من المنزل قاصدا المسجد الاعظم بجوار حرم السيدة فاطمة المعصومة لمتابعة هذه الابحاث
وما أن وصلت الى الصحن الجديد الشمالي الذي لا يزال العمل جاريا به والذي اطلق عليه اسم صحن جواد الائمة، وهو الذي يقع فوق مجرى النهر الذي شهد قبل سنتين حادثة مأساوية لا تزال ماثلة في الاذهان عندما جرف السيل عددا من السيارات والاشخاص.. حتى شعرت بتردد في داخلي .. من أي باب سأدخل الحرم وصولا الى المسجد؟
توجهت نحو المدخل المقابل للجسر الحديدي الذي يدخلنا عبر التوسعة الجديدة كي أدخل من ذاك الباب بدل أن ألتف نحو الصحن القديم ، وأثناء عبوري التفت الى مدخل خاص مغلق يوصل الى الباب الغربي المستحدث للجامع الاعظم من جهة ولاحد مداخل حرم السيدة المعصومة من جهة أخرى وتساءلت بيني وبين نفسي، هل سيتم فتح هذا المدخل لعموم الزوار أم سيكون مدخلا خاصاً لشخصيات خاصة، كما يستعمله الان استاذنا الشيخ الوحيد الذي بلغ من العمر عتياً وهو يواصل درسه بهمة عالية، وتوصله السيارة من هذا المدخل الى باب الحرم..؟
رجحت في نفسي ان يبقى مدخلا خاصا دون ان يكون عاماً.
كانت هذه مجرد خواطر تمر بالبال وكان من الممكن ان يتلاشى ذكرها كما تتلاشى الكثير من الخواطر والافكار ..
إلا أن ما جعلها تأخذ هذا الحجم من التفكير وتصل الى مرحلة التدوين هو مشهد أمام ناظري أعاد بي الذاكرة قرابة أربع عقود من الزمن.. فماذا شاهدت؟
دخلت الى الحرم من الباب المحاذي لهذا المدخل الخاص، الذي قلّما يلتف اليه احد أثناء مروره، وما أن وصلت الى القرب منه حتى فُتح الباب ودخل منه شخص جليل ذو هيبة.. يحيط به بضعة شبان من الحراس يحيطون به و يسيرون معه من الجهات الاربع..
أحدهم يسير أمامه والاخر خلفه وكذلك الحال عن جانبيه.
أجهزة الاتصال تبدوا ظاهرة في آذانهم..
أنهم يحيطونه بأجسادهم ، ويشكلوا حاجزا بينه وبين الاخرين..
هل ذا نتيجة خوف عليها من الاخرين؟ أم لإظهار مكانتها الاجتماعية ؟ أم لكلا الأمرين معا..
لا يهم الدافع لذلك ما دام هذا سلوك عادي يقوم به حَرَسُ الشخصيات التي تتبوأ مواقع أو مسؤوليات في معظم المجتمعات..
كان من الممكن لهذا المشهد أن يمر أمامي مرور الكرام ، فكثيرة هي المشاهد المشابهة التي تمر أمامي.. فما كنت لأقف عنده لولا معرفتي بشخصية هذا السيد..
لا شك أنه يدخل الان بهذه الهيئة وبهذه الحراسة لا ليزور السيدة المعصومة بل ليعطي درسا في مسجد محمدية الذي صار ركنا من اركان الحرم بعد التوسعة الاخيرة منذ سنوات وربما يعود للزيارة بعد الدرس..
قبل ما يقرب من عشر سنوات كان يعطي درسه في بيته أو مكتبه في قم ثم انقطع عن ذاك الدرس ليعود منذ أشهر لاعطاء درسه مجددا في هذا المكان..
لقد اشتهر له كتاب أصولي من سبع مجلدات من قبل أن يتبوأ موقعه الرسمي إنه بحوث في علم الاصول.. وسمعت يوما من السيد كاظم الحائري أن السيد الهاشمي قد استعان ببعض ما كان السيد الحائري قد كتبه لاكمال تلك الدورة الاصولية ..
والدورة الاصولية تلك التي كان يلقيها عليهم الشهيد السيد محمد باقر الصدر..
لقد أعاد مشهد اليوم ذاكرتي الى أربعة عقود من الزمن ..
اليه عندما كان تلميذا.. الى النجف الاشرف في سبعينيات القرن الماضي..
كان والدي على علاقة شخصية حميمة مع الشهيد السيد محمد باقر الصدر.. تتعدى علاقة التلميذ باستاذه..
لقد كان يؤمن ولا يزال بمقولة: أن العلم يؤخذ من الصدور لا من السطور..
ويردد دائما ولا يزال بيتا من الشعر يقول فيه:
أفضِّل استاذي على نفس والدي... وإن نالني من والدي الفخر والشرف
فذاك مربي الروح والروح جوهر.. وذا مربي الجسم والجسم من صدف
إن والدي ممن يلتزم بوصية عيسى المسيح عليه السلام التي وردت عن لسان الائمة عليهم السلام والتي يقول فيها:
زاحموا العلماء في مجالسهم..
فكان يذهب الى منزل السيد الصدر كما يذهب الى منازل بعض العلماء الكبار في غير أوقات درسهم حيث ينفسح المجال أمامه للحديث..
وفي أحد تلك الأيام وقت الظهيرة في حر النجف ذهبت مع والدي الذي لم يكن يوفر مناسبة إلا ويصطحبني فيها معه وقد اختار وقتا لا يتواجد فيه احد ليختلي باستاذه.. وصلنا ودخلنا وكان السيد الشهيد يعطي درساً خاصاً لهذا السيد الذي شاهدته اليوم..
إنه السيد محمود الهاشمي، الذي صار يعرف بالشاهرودي عندما تولى مسؤولية القضاء لثمان سنوات خلت في ايران.
كان مسؤولا عما يُسمى بالقوة القضائية التي جعلته يترك درسه في سنوات المسؤولية..
تذكرته تلميذا يهتم به استاذه في درس أو بحث خاص يعطيه له .
لم تكن اليوم هي المرة الاولى التي استذكر فيها تلك الصورة في مخيلتي، فقد استذكرتها منذ ما يزيد على عشر سنوات..
يومها قدم المرحوم الشيخ محمد مهدي شمس الدين في زيارة الى ايران..
وحل ضيفا في منزل الشهيد المرحوم السيد محمد باقر الحكيم..
وكنت مع مجموعة في زيارة الشيخ، وإذ بنا نسمع صوت إغلاق ابواب السيارات بقوة ملفتة للنظر..
ما هي إلا لحظات وإذ بشخص يدخل الى الغرفة ويتجاوز الحضور ليصل الى الشيخ شمس الدين ويسلم عليه ويجلس بجانبه..
كان ذاك السيد يومها هو السيد الهاشمي الشاهرودي.. وكان الشيخ شمس الدين ينزعج عادة من سلوكيات الحراس..
لم يكن أحد ليلتفت الى مغزى كلام الشيخ شمس الدين الذي يعرض فيه بسلوكيات الحراس سواي لانني كنت أعرف حقيقة مشاعره تجاههم..
ففي احد الأيام كنت بزيارته مع والدي في منزله في حارة حريك بعد خروجي من معتقل أنصار قبل ان يضطر الى مغادرته فيما بعد .. وأثناء حديثنا سمع طلقة رصاص فاستشاط غضبا وتغير لونه وقطع حديثه واستدعى مسؤول الحراس عنده ، الذي قال ان شخصا حاول الدخول بسيارة غريبة و اراد أن يتجاوز نقطة الحرس ويدخل الى حرم البناية دون ان نعرفه فأطلقت رصاصة كي يتوقف..
لقد لاقى هذا الحارس توبيخاً من الشيخ مما جعلنا نتدخل للدفاع عنه..
قلنا للشيخ بعد أن خرج هذا الحارس، إن هذا الشخص هنا يُعرّض نفسه للخطر من أجل حمايتك وقام بما قام به من اجل ذلك فما الداعي لهذا التوبيخ؟
مشهد اليوم نقلني الى جملة صور أضاءت كومضات في مخيلتي شكلت إشعاعات أطرحها بلا تعليق..
1- كَانَ قَنْبَرٌ غُلَامُ عَلِيٍّ يُحِبُّ عَلِيّاً ع حُبّاً شَدِيداً فَإِذَا خَرَجَ عَلِيٌّ ص خَرَجَ عَلَى أَثَرِهِ بِالسَّيْفِ فَرَآهُ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَقَالَ يَا قَنْبَرُ مَا لَكَ فَقَالَ جِئْتُ لِأَمْشِيَ خَلْفَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ وَيْحَكَ أَ مِنْ أَهْلِ السَّمَاءِ تَحْرُسُنِي أَوْ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ فَقَالَ لَا بَلْ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ فَقَالَ إِنَّ أَهْلَ الْأَرْضِ لَا يَسْتَطِيعُونَ لِي شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ مِنَ السَّمَاءِ فَارْجِعْ فَرَجَعَ.
2- ينقل والدي كلاما عن استاذه الشهيد ولعلي سمعتها يوما في شريط مسجل يقول فيها لطلابه بما معناه.... هل عُرضت عليكم دنيا هارون الرشيد ورفضتموها..
3- عن علي (ع) ما أرى شيئا أضر بقلوب الرجال من خفق النعال وراء ظهورهم..
4- التقى والدي يوما أثناء بعض زياراته مع زميله السيد على باب الحرم .. فبادره السيد قائلا:
هنيئا لك يا ابا مصطفى .. تأتي وتذهب كيف تشاء ومتى تشاء أما نحن فقد قيدتنا الدنيا..
ما استقر في بالي : هنيئا لمن يبق حرا.. في تفكيره.. في سلوكه..وهل هناك أغلى من الحرية..
ولنعم ما قال امير المؤمنين يوصي ابنه:
وَ اعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّ مَنْ كَانَتْ مَطِيَّتُهُ اللَّيْلَ وَ النَّهَارَ فَإِنَّهُ يُسَارُ بِهِ وَ إِنْ كَانَ وَاقِفاً وَ يَقْطَعُ الْمَسَافَةَ وَ إِنْ كَانَ مُقِيماً وَادِعاً
وَ اعْلَمْ يَقِيناً أَنَّكَ لَنْ تَبْلُغَ أَمَلَكَ وَ لَنْ تَعْدُوَ أَجَلَكَ وَ أَنَّكَ فِي سَبِيلِ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ
فَخَفِّضْ فِي الطَّلَبِ وَ أَجْمِلْ فِي الْمُكْتَسَبِ فَإِنَّهُ رُبَّ طَلَبٍ قَدْ جَرَّ إِلَى حَرَبٍ وَ لَيْسَ كُلُّ طَالِبٍ بِمَرْزُوقٍ وَ لَا كُلُّ مُجْمِلٍ بِمَحْرُومٍ
وَ أَكْرِمْ نَفْسَكَ عَنْ كُلِّ دَنِيَّةٍ وَ إِنْ سَاقَتْكَ إِلَى الرَّغَائِبِ فَإِنَّكَ لَنْ تَعْتَاضَ بِمَا تَبْذُلُ مِنْ نَفْسِكَ عِوَضاً
وَ لَا تَكُنْ عَبْدَ غَيْرِكَ وَ قَدْ جَعَلَكَ اللَّهُ حُرّاً
وَ مَا خَيْرُ خَيْرٍ لَا يُنَالُ إِلَّا بِشَرٍّ وَ يُسْرٍ لَا يُنَالُ إِلَّا بِعُسْرٍ
وَ إِيَّاكَ أَنْ تُوجِفَ بِكَ مَطَايَا الطَّمَعِ فَتُورِدَكَ مَنَاهِلَ الْهَلَكَةِ
وَ إِنِ اسْتَطَعْتَ أَلَّا يَكُونَ بَيْنَكَ وَ بَيْنَ اللَّهِ ذُو نِعْمَةٍ فَافْعَلْ
فَإِنَّكَ مُدْرِكٌ قَسْمَكَ وَ آخِذٌ سَهْمَكَ وَ إِنَّ الْيَسِيرَ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَكْرَمُ وَ أَعْظَمُ مِنَ الْكَثِيرِ مِنْ خَلْقِهِ وَ إِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُ