الحلقة رقم 8 - تاريخ: 13-06-2012
مقدمة الحلقة والترحيب بالضيف
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلاته والسلام على أشرف الخلق وأعزّ المرسلين المصطفى محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين. السلام عليكم مشاهدينا الأكارم ورحمة الله وبركاته.
في أحد عشر آية من القرآن الكريم، خاطب الله الحكيم عباده المؤمنين في أكثر من سورة، آمراً بطاعته وطاعة رسوله. ولكن في آية واحدة، قرن الله تلك الطاعة بطاعة قوم آخرين، فقال عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ﴾.
بحثنا في هذا البرنامج عن هؤلاء الذين قرن الله طاعتهم بطاعته وطاعة رسوله: من هم؟ ما هي صفاتهم؟ ما هي أسماؤهم؟ كيف لنا أن نعرفهم أو نصل إليهم؟ هل أنهم كل من وصل إلى السلطة؟ أو ورث سلطة؟ أو ارتكب الجرائم وسفك الدم لينال سلطة؟ أم أنهم أعدل الخلق، أفضل الخلق، أكمل الخلق، أعرف الخلق، أعلم الخلق، صفوة الخلق بعد خير الخلق، بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأنهم أئمة اختارهم الله تعالى؟
ننتقل وإياكم أعزاء المشاهدين إلى محور جديد من محاور هذا البحث، وأحيّكم أطيب تحيّة في لقائنا المتجدد مع برنامج "أئمة الهدى".
حديثنا في بداية هذه الحلقة كنا قد أشرنا إليه في بداية حلقتنا السابقة التي فرضت فيها مناسبة وفاة السيدة زينب عليها السلام حديثاً آخر. نعود معاً لنُكمل ما يرتبط بمدلول الآية الثانية والثلاثين من سورة آل عمران، من أن مخالفة الله ورسوله تؤدي إلى الكفر، وما الفرق بين الكفر والفسق.
ضيفنا الدائم في هذا البرنامج، الباحث الإسلامي والأستاذ في الحوزة العلمية، سماحة الشيخ مصطفى محمد مصري العاملي، والذي نرحب به في بداية هذا اللقاء.
أهلاً ومرحباً بكم سماحة الشيخ ضيفاً عزيزاً على قناتكم قناة كربلاء الفضائية.
الشيخ مصطفى العاملي: أهلاً وسهلاً بكم، حفظكم الله ورعاكم وسدد أخطاكم.
المُقدِّم: حياكم الله سماحة الشيخ وأهلاً ومرحباً بكم.
سماحة الشيخ، وصل بنا الكلام في الحلقة السابقة إلى ما ذكره أمير المؤمنين علي بن أبي طالب سلام الله عليه من أن الفسق هو أحد دعائم الكفر، وأن هناك أربعة شُعَب للفسق. طبعاً تحدثتم عن اثنتين من هذه الشعب وهما: الجفاء والعمى. وبقي اثنان: الغفلة والعتو.
السؤال المحوري الأول: كيف يوصل هذان العنوانان، الغفلة والعتو، إلى الكفر؟ الذي تحذر منه الآية الكريمة، الآية 32 من سورة آل عمران: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾. تفضلوا.
المُقدِّم: (مقاطعاً) اسمح لي سماحة الشيخ، قبل حديثكم ننوّه للإخوة المشاهدين الأعزاء بأننا سوف نستلم اتصالاتهم ومداخلاتهم على أرقام الهواتف التي ستظهر على الشاشة أو أسفل الشاشة إن شاء الله تعالى. تفضل سماحة الشيخ معذرة.
الكفر والفسق ودعائم الكفر الأربعة
الشيخ مصطفى العاملي:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على خير رُسله وأعز أنبيائه سيدنا ونبينا محمد، وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين ﴿الَّذِينَ أَذْهَبَ اللَّهُ عَنهمُ الرِّجْسَ وَطَهَّرَهُمْ تَطْهِيرًا﴾. السلام عليكم أيها المشاهدون الكرام والمتابعون لهذا البرنامج، والسلام عليك أخي الكريم ورحمة الله وبركاته.
لا بد من أن نشير إلى ما يرتبط بموضوع هذا البرنامج وهذه الحلقة لمن فاتته الحلقات السابقة. هناك رابط في المواضيع التي نطرحها بين حلقة وأخرى. وقد اتضح لدى المشاهد الكريم أن محور البرنامج من خلال التساؤلات التي تفضلتم بها في مقدمة حديثكم، هو أننا نحاول أن نبين حقيقة الطاعة لله والرسول المفروضة على المؤمنين في إطار الملازمات والنتائج التي بيّنتها مجموعة من الآيات الكريمة، التي أشرنا إليها في حديث سابق من أنها تأمر بطاعة الله وطاعة رسوله. عندما نفهم حقيقة الترابط بين كل هذه الآيات ومدلولات هذه الآيات، وبالتالي إلى ماذا تؤدي مخالفة طاعة الله ورسوله، نفهم حقيقة الطاعة المطلوبة لأولئك الذين قرن الله طاعتهم بطاعته، وهم أولوا الأمر المقصودون في الآية.
في هذا الإطار حول الآية التي ذكرت، الآية 32 التي تحدثنا عنها في أكثر من حلقة سابقة، التي نلاحظ فيها أن الله تعالى في خطابه للمؤمنين كما أسلفنا: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾. فوصف التولي عن طاعة الله وطاعة الرسول بأنه كفر، مع العلم بأنه خطاب للمؤمن. أشرنا في هذا السياق لمن فاتته الحلقات السابقة إلى أن للكفر معنيان بشكل موجز: هناك كفر جحود وإنكار، وهناك كفر تمرد وعصيان.
حقيقة هذا الكفر الذي نتحدث عنه هو ما بينه أمير المؤمنين عليه السلام عندما تحدث أن الكفر على أربع دعائم منها الفسق. والفسق عادة يُطلق عندما نقول إنسان فاسق، هو يُطلق على من يلتزم التزاماً ناقصاً، فيُعبَّر عنه بأنه ﴿فَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾. فالفسق هذا في حالة من الحالات خروج عن طاعة الله سبحانه وتعالى، باعتبار المعنى اللغوي للفسق هو الخروج عن الطاعة. وهذا في إطار كما قلت في إطار المؤمنين، ليس في إطار الملحدين، لأن أولئك يدخلون في كفر الجحود والإنكار. هنا الكفر الذي نتحدث عنه في إطار كلام أمير المؤمنين عليه السلام وما تشير إليه الآية الكريمة، يدخل في إطار الكفر الذي يبدأ بمرتبة يسيرة ثم يصل إلى مراتب أخرى.
أمير المؤمنين عليه السلام الذي بيَّن العناصر الأربع أو الدعائم الأربعة التي يرتكز عليها الكفر، ذكر فيما يرتبط بالفسق - وهو مورد حديثنا عن العلاقة كيف أن الفسق يؤدي إلى الكفر وكيف يكون في ذلك خروج عن طاعة الله وطاعة رسوله - الفقرة التي وصلنا إليها في كلام أمير المؤمنين عليه السلام التي نريد أن نتحدث عنها في هذه الحلقة: مسألة الغفلة.
الغفلة واتباع الهوى
الشيخ مصطفى العاملي:
مسألة الغفلة هنا في الواقع يقف المرء مُنبَهراً أمام البلاغة العظيمة لأمير المؤمنين عليه السلام عندما يبين بالفقرة المذكورة: "وَمَنْ غَفَلَ جَثَى عَلَى ظَهْرِهِ، وَحَسِبَ غَيَّهُ رُشْداً، وَغَرَّتْهُ الْأَمَانِيُّ، وَأَخَذَتْهُ الْحَسْرَةُ إِذَا انْقَضَى الْأَمْرُ وَانْكَشَفَ عَنْهُ الْغِطَاءُ، وَبَدَا لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُنْ يَحْتَسِبُ".
يبين أمير المؤمنين هنا هذا العنوان الذي يوصل إلى الفسق، والذي هو بدوره من دعائم الكفر. هذه الغفلة التي تحدث عنها أمير المؤمنين عليه السلام نحاول أن نقف عند بعض الفقرات التي وردت في هذا السياق.
الغفلة ما هي؟ عندما نقول الغفلة، الآية القرآنية الكريمة تقول: ﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾.
نحن بداية حديثنا، الموضوع الأول، الآية الأولى المرتبطة بمحور حديثنا: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ﴾. إذن هناك أمر بالطاعة لهؤلاء الثلاثة. هذا العنوان الثالث الذي قال عنه أنهم من أولي الأمر، سمّاهم أولي الأمر في هذه الآية، لا بد إذاً أن نفهم من خلال هذا السياق أن هذا العنوان "أولي الأمر" لا يمكن أن يكون - من خلال التساؤلات التي ذكرتموها - أن كل من وصل إلى السلطة، أو ورث سلطة، أو تمسك بالسلطة، أو سعى إليها بشتى الوسائل، أن يكون من خلال هؤلاء الذين أُمروا بأن تكون طاعتهم مقرونة بطاعة الله ورسوله.
الله تعالى يقول - وحاشا لله تعالى - أن يأمرك بنفس الأمر بإطاعة شيء وبنفس الوقت بعدم إطاعته: ﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ﴾.
أولاً، الفقرة الأولى أن قلب هذا الإنسان، والمقصود بالقلب عندما تتحدث عنه الآيات الكريمة التي تشير إلى ما يرتكز في فؤاد الإنسان من توجه ومن قناعات، ﴿أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا﴾. معنى ذلك أن همه وعمله ليس مرتبطاً بالله تعالى، له أهداف أخرى ما هي؟ هي قد تكون بعناوين مختلفة ولكنها ليست في سبيل الله تعالى.
وأكثر من ذلك: ﴿وَاتَّبَعَ هَوَاهُ﴾. يعني إنسان بموقع ما، بمسؤولية ما، بمكان ما وصل إلى ما وصل إليه، وإذ به يسير وفق هوى نفسه. هوى النفس هو الذي يحركه، هوى النفس هو الذي يدفعه، هوى النفس هو الذي يرسم علاقته مع الآخرين. معنى ذلك أن هوى النفس في هذه الحالة وفي تلك الصورة يدخل في إطار كون الهوى معبوداً له وليس الله. ولذا نجد آية أخرى تتحدث: ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ﴾. فإذاً لا يمكن لله تعالى أن يأمرنا بإطاعة أناس قرن طاعتهم بطاعة الله ورسوله وهم يتصفون بهذه الصفات التي في هذه الآية أمرنا بعدم إطاعتهم، ﴿وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾.
المُقدِّم: سماحة الشيخ هنا ﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ﴾، هنا يعني هذه الغفلة، غفلة القلب هي سبب اتباع الهوى راح تكون؟
الشيخ مصطفى العاملي: صحيح، لا شك ولا ريب أنه يكون فيه ابتعاد عن الله تعالى. فعندما يكون قد غفل قلبه عن الله تعالى، حينئذ القلب إما أن يكون عمله باتجاه مرضاة الله تعالى، وعندما لا يكون باتجاه مرضاة الله تعالى، فمعنى ذلك اتخذ منحى آخر ومنه هوى النفس، يعني مقابل عبادة ما أمر الله، ما أمر الله تعالى. وهذا من آثار الغفلة.
يعني الله تعالى أمر الإنسان مثلاً بالصدق، أمره بالأمانة، أمره بالإخلاص، أمره بأشياء كثيرة، فيجد هذا الإنسان أن التزامه بالمصداقية مثلاً، التزامه بالصدق، قد يؤثر على ما يراه مصلحة له. وبالتالي ماذا يفعل؟ يذهب باتجاه هوى النفس ويخالف ما أمر الله تعالى. هنا يكون قد اتبع هوى، واتباع الهوى يكون من ناحية فكرية ومن ناحية عملية.
نجد مثلاً نموذجاً لذلك في التاريخ وفي حياتنا وفي حياة كل واحد منا، ما تحدث عنه التاريخ عن عمر بن سعد مثلاً، ماذا قال في كربلاء وما هي أبيات الشعر التي تمثَّل بها عندما عُرضت عليه الأمور: إما أن تقود الجيش لقتال الحسين وإما أن تُعزل من كذا وكذا. فهنا المسألة تظهر جلياً عن كيفية اتباع الإنسان لهوى نفسه، وهذا من الطبيعي أن يكون منهياً عنه بأمر الله تعالى.
أمير المؤمنين عليه السلام في هذا الإطار يبين لنا جانباً في حديث يخاطب به ابن عباس، حديث طويل يقول: "يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، عَامِلِ اللَّهَ فِي سِرِّهِ وَعَلَانِيَتِهِ تَكُنْ مِنَ الْفَائِزِينَ". أنت علاقتك مع الله تعالى سواء كانت في الإحاطة بين الناس أو في الإحاطة بينك وبين نفسك... ﴿بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ﴾. لا يمكن للإنسان أن يتظاهر أمام الناس بأمور ما شاء الله، ويُوضع بمكان ما شاء الله، ولكن بينه وبين نفسه يدرك أنه ليس في هذا الموقع وليس في هذا المكان.
ثم يقول بالمقابل، هذا جانب النجاح. الجانب الآخر يقول: "دَعْ مَنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا، وَيَحْسَبُ" ويكمل أمير المؤمنين عليه السلام "مُعَاوِيَةُ مَا عَمِلَ وَمَا يَعْمَلُ بِهِ مِنْ بَعْدِهِ وَلَيُمِدَّهُ ابْنُ الْعَاصِ فِي غَيِّهِ، فَكَأَنَّ عُمُرَهُ قَدِ انْقَضَى، وَكَيْدَهُ قَدْ هَوَى، وَسَيَعْلَمُ الْكَافِرُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ". إذن الغفلة واتباع الهوى إلى أين توصل؟ عبَّر عنه أمير المؤمنين عليه السلام بأنه كفر: ﴿وَسَيَعْلَمُ الْكَافِرُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ﴾.
لذا نجد مثلاً في الآية الكريمة التي تقول: ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾. العمى عمى القلب وليس عمى البصر. العمى عن الحقيقة، الحقيقة التي تظهر جليَّةً واضحةً من خلال كلام الله تعالى، من خلال ما بيّنه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، من خلال بيان من أمر بطاعتهم ومودّتهم. ومع ذلك يكون هناك انحراف.
وفي آية أخرى قوله تعالى يقول: ﴿لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾. فمعنى ذلك أن هذه الحالة التي يعيشها الإنسان في مثل هذه السلوكيات توصله إلى ساعة ندم. وبنفس الوقت: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ﴾. يعني هل يتوقع إنسان ما أن الله تعالى الذي أنزل العذاب على أقوام في التاريخ لأنهم تمردوا وذبحوا مثلاً ناقة صالح، هل تتصور أن الله تعالى سيترك أولئك الذين تجرأوا على حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دون أن يحاسبهم؟
ولذا نجد في آية قرآنية كريمة تقول بداية سورة الأنبياء: ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ﴾. وفي إطار آخر يقول: ﴿وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ﴾. إذن الغفلة لا يمكن أن تطيع من أغفلنا قلبه عن ذكره.
مداخلة الأخت أزهار عن الإمام الكاظم
المُقدِّم: تفضلي أخت أزهار من ذي قار. سلام عليكم أختي أزهار.
الأخت أزهار: السلام عليكم. نعزيكم ونعزي العالم الإسلامي، وعظَّم الله أجوركم ورحمة الله وبركاته.
(تتحدث عن الإمام الكاظم عليه السلام): الإمام الكاظم عليه السلام أنه رأى رجلاً متواضع المظهر، فسلم عليه، وقال له: إن كانت لك حاجة فأنا أقوم بها. فقال له: قائدنا رسول الله. فقال له الإمام عليه السلام: أنت تتواضع لهذا؟ فقال له الإمام عليه السلام: هذا عبد من عبيد الله، وأخ في كتاب الله، وجار في بلاد الله. نعم، علينا أن نقتدي به وبأخلاقه.
المُقدِّم: (معقباً) أود أن أقف عند فقرة وتصبّ في موضوع حديثنا. الإمام الكاظم عليه السلام الذي أمضى جزءاً ليس باليسير من عمره في مطامير السجون ساجداً عابداً قائماً، يسجد الليلة إلى الفجر. في نفس الوقت كان في زمنه ذاك الذي كان يقول للغمامة: اذهبي حيث شئتِ فخيرك راجع إلي، يتنعم في القصور، يتنعم فيما يعرفه ليالي ألف ليلة وليلة. هل يمكن أن يأمر الله تعالى بإطاعة مثل هؤلاء الذين وصلوا إلى السلطة بما وصلوا إليه واستعبدوا الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟ ومثل الإمام الكاظم عليه السلام لا يكون هو الإمام؟ فقط تساؤل من خلال هذه الكلمة. أحسنتم سماحة الشيخ.
مدلولات الغفلة في كلام أمير المؤمنين
الشيخ مصطفى العاملي:
هذا ما تحدثنا عنه في الواقع يرتبط بمسألة الغفلة. كلام أمير المؤمنين عليه السلام عندما قال: "وَمَنْ غَفَلَ جَثَى عَلَى ظَهْرِهِ". هنا نصل إلى العبارة البلاغية الكبيرة والمهمة التي عبَّر بها أمير المؤمنين عليه السلام عندما قال: ﴿جَثَى عَلَى ظَهْرِهِ﴾.
ماذا تعني ﴿جَثَى عَلَى ظَهْرِهِ﴾؟ الجثو باللغة عندما نقول جثا الإنسان يجثو على ركبته، يعني يكون مستعداً متجمعاً في مكان على حالة بين القيام والقعود. يقال: جثا. وهذا الجثو يدل على الانتظار، يدل على الترقب، يدل على حالة الحذر، يدل على الاستعداد.
علي عليه السلام في عبارة أخرى يقول: "أنا أول من يجثو للخصومة يوم القيامة". إذن الجثو هو حالة استعداد لِمُحاسبة لعمل ما.
عندما يقول في العبارة التي تقول: ﴿جَثَى عَلَى ظَهْرِهِ﴾، يعني يصور لنا أن هذا الذي عليه أن يكون مستعداً وجاثياً وينتظر ومجهزاً لنفسه لكل شيء، وإذ به يجثو على ظهره، يعني ذلك أنه يعمل عكس ما هو مطلوب منه.
ولذا نجد في العبارة الثانية من كلام أمير المؤمنين عليه السلام التي تبين لنا هذا المعنى: "وَحَسِبَ غَيَّهُ رُشْداً". الانحراف، الضلال، الخطيئة، الإجرام، الغرور، التكبر، كل هذه الأمور حسبها أنها رشداً. وهو يظن أنه رشيد، يعني عاقل، يعني متمكن، يعني قدير.
لذا نجد في قوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾. ﴿يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾. وهؤلاء نجدهم مثلاً في آية أخرى تقول: ﴿فَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ﴾.
نحن تقربنا إلى المعنى الفلاني، نحن رتبنا أمورنا مع صاحب النفوذ الفلاني، نحن عملنا عملنا، ﴿وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ﴾. وبالتالي هذا هو من الغي الذي يوصل إلى الفسق الذي تحدثنا عنه، والفسق يوصل إلى الكفر، والكفر متعارض مع طاعة الله وطاعة رسوله.
علاقة أئمة الهدى بالغفلة
المُقدِّم: إذا تسمح لنا نذهب إلى فاصل إن شاء الله ونكمل هذا البحث الشيق والمهم إن شاء الله. مشاهدين أعزاء فاصل ونعود إليكم، فابقوا معنا.
المُقدِّم: مشاهدين الأكارم، نرحب بكم مرة أخرى ونرحب كذلك بسماحة الشيخ. حياكم الله سماحة الشيخ وأهلاً ومرحباً بكم.
الشيخ مصطفى العاملي: أهلاً وسهلاً بكم.
المُقدِّم: المشاهد قد يسأل دائماً يقول: مثلاً هذا الكلام الذي يتفضل به سماحة الشيخ نريد أن نلاحظ ربط بين هذا الكلام وبين الآية مورد البحث مباشرة. يعني الحديث عن أئمة الهدى سلام الله عليهم يكثر هذا التساؤل قد يكون من قبل المشاهدين. والآن نريد أن نسأل هكذا نقول: هل أن اتباع مثلاً اتباع أهل البيت سلام الله عليهم، اتباع أئمة الهدى مورد الحديث واسم برنامجنا، ينجي ويعني يُبعد الإنسان من الغفلة؟ نحن نتحدث عن الغفلة ونريد أن نربط بين الغفلة وبين أئمة الهدى. تفضلوا.
الشيخ مصطفى العاملي: في الواقع ما نحاول لحد الآن من خلال بحثنا أن نؤسس لمفاهيم ثابتة ترتكز في أذهان المُنصِف حول التساؤلات التي ذكرت، من أن الذين أُمروا بطاعتهم مع طاعة الله ورسوله لا بد من أن يكونوا متصفين بصفات معينة. هذه الصفات نحن لحد الآن لم نذكر منهم ما هي أسماؤهم، ما هي صفاتهم، ولكن نحن نحاول من خلال استعراضنا لهذه الأبحاث في هذه الحلقات أن نبين حقيقة إيجابية من جهة وحقيقة سلبية من جهة أخرى.
الحقيقة السلبية هي الأوصاف التي يمكن أن يتصف بها بعض الناس الذين وصلوا إلى السلطة بشكل أو بآخر، ويحاولون أن يُضفوا على ما قاموا به صبغة شرعية، بأن يقولوا: نحن أولو الأمر، نحن الحاكمون، نحن من نأمر وننهى، إذن الله تعالى يأمركم أيها الناس أن تطيعوننا. هذه هي المسألة التي يحاولون في شتى الأزمنة والأقطار والأمصار أن يستعملوها. نحن نحاول أن نبين أن هذا الوصف لا بد من أن يكون منطبقاً على أناس محددين من خلال استعراضنا للآيات التي أشرنا إليها. إحدى عشرة آية في القرآن الكريم عندنا ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ﴾ كلها تدل على معنى واحد، وأن مخالفة الله ومخالفة الرسول إلى أين توصل هو ما نبحث عنه في هذه الآيات، بحيث نصل مع المشاهد الكريم إلى حقيقة يتلمسها عياناً من خلال كتاب الله.
نحن نحاول أن نصل إلى ما هو محكم في كتاب الله تعالى، ونوضح ما هو متشابه استناداً إلى المحكم، فتتضح الصورة الحقيقية التي سيصل إليها المتابع الكريم تلقائياً، وهو ما نقصده في حديثنا.
المُقدِّم: ولكن يبقى المشاهد يُصِر على أن يقول عنوان البرنامج هو "أئمة الهدى" وتتحدثون عن الآية المباركة ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ﴾، وأنتم لحد الآن لم تتحدثوا عن أئمة الهدى مباشرة.
الشيخ مصطفى العاملي: نحن نبين الصفات الحقيقية التي يجب أن تكون متوفرة بالأئمة الذين يؤمر الإنسان بطاعتهم، من خلال استعراضنا لمدلول وملازمات هذه الآية. وهذه الآية تختصر قصة الحياة من جميع جوانبها. نحن الآن في الحلقة الثامنة ولا نزال حول هذا الجانب. وأعتقد أن ما يرتبط بأسس الحياة من أمور عقائدية ومسلكية تؤثر وتؤسس لمستقبل حياة الفرد الفكرية والعملية، لا بد من أن تكون محاطة بشيء من الشمولية والتفصيل وعن قناعة لا عن تقليد أعمى.
نحن عندما نلتزم بشيء ما، عندما نلتزم بعقيدة، عندما نلتزم بمبدأ، فلأننا وصلنا بالدليل القاطع واليقيني على صحة ما نعتقد به، وهو ما نحاول أن نبينه في هذا البرنامج.
في إطار حديثنا وصلنا إلى: هل أن اتباع أئمة الهدى سلام الله عليهم يُبعد ويُنجي من الغفلة؟ وكيف؟
الشيخ مصطفى العاملي: إطاعة أئمة الهدى، الغفلة هي في البداية نحن في حديثنا عن الغفلة في إطار الآية التي أشرنا إليها واستعرضناها: ﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا﴾. نحن نقول أن الغفلة توصل إلى الفسق، والفسق يوصل إلى الكفر، والكفر يتناقض مع طاعة الله وطاعة الرسول.
إذن بالجهة الأخرى عندما يكون هناك أمر بطاعة الله وطاعة الرسول وطاعة أولي الأمر، فمعنى ذلك أن أولي الأمر الذين أُمرنا بطاعتهم في هذه الآية لا بد من أن يكونوا بالموقف المعاكس لمن تنطبق عليهم هذه الصفات. إذا استطعنا أن نفهم حدود هذه الملازمات، حينئذ تتضح لنا الصورة الحقيقية بأن الطاعة الحقيقية هي لأناس اتصفوا بصفات أرادها الله تعالى لهم، وبالتالي لا يمكن أن يكونوا متصفين بصفات لا يرضاها الله تعالى وتؤدي إلى الكفر، والكفر مناقض لطاعة الله وطاعة رسوله.
الحسرة والعتو
الشيخ مصطفى العاملي:
أحسنتم سماحة الشيخ. في هذا الإطار ولا نزال في هذا المحور، كلام أمير المؤمنين عليه السلام يبين عناصر الغفلة: ﴿وَغَرَّتْهُ الْأَمَانِيُّ﴾. لنستعرض مثلاً قوله تعالى عندما يتحدث عن اليهود والنصارى: ﴿قَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ ۗ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ ۗ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾.
وفي آية أخرى: ﴿قَالُوا نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ۚ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم ۖ بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ﴾. إذن الله تعالى عنده مقاييس: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾. الطاعة لله والطاعة لرسوله هي التي تؤدي إلى عناصر إيجابية.
من العناصر التي توصل إلى الغفلة، الحسرة. يقول أمير المؤمنين عليه السلام: ﴿وَأَخَذَتْهُ الْحَسْرَةُ إِذَا انْقَضَى الْأَمْرُ وَانْكَشَفَ عَنْهُ الْغِطَاءُ﴾. الله تعالى ماذا يقول: ﴿وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾. هذه تدل على نماذج الغفلة.
﴿وَبَدَا لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُنْ يَحْتَسِبُ﴾. وهنا نجد أن الإنسان في تلك الساعة يصل إلى حالة لم يعد باستطاعته أن يغير شيئاً من واقعه الفكري، من واقعه السلوكي، من واقعه العملي. نحن في هذه المرحلة في هذه الحياة نستطيع أن نغير، نستطيع أن نبدل، لم يفتن القطار بعد، لم تنتهِ ساعة الامتحان بعد.
وهو ما تشير إليه الآية الكريمة التي تقول: ﴿وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِن سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ﴾. لأنه في ذاك اليوم يقال: ﴿الْيَوْمَ تُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾.
وهنا نشاهد أن هذه الحالة التي يمكن أن يصل إليها الإنسان يخاطب بها: ﴿إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا﴾. يتمنى أنه كان تراباً وهو المتجبر وهو الطاغي وهو الحاكم وهو الآمر وهو المتسلط على رقاب العباد في هذه الحياة الدنيا. وهنا لماذا يقول يا ليتني كنت تراباً؟ لأنه يتمنى أن يكون أقل شيء من هذه الموجودات. وذاك اليوم الذي يقول: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا﴾. ياليتني أطعت الرسول.
هذه عناوين ترتبط بمسألة الغفلة.
أما مسألة العتو. يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "وَمَنْ عَتَا عَنْ أَمْرِ اللَّهِ أَذَلَّهُ بِسُلْطَانِهِ وَصَغَّرَهُ بِجَلَالِهِ". وهذه واحدة من عناصر الفسق، شعبة من شُعَب الفسق، العتو.
فهنا نشاهد مثلاً في القرآن الكريم عندما يقول عن قوم صالح: ﴿فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾. العلة ليست في نفس عقر الناقة، بل العلة في ما يدل عليه هذا الفعل، عبر عنه تعالى: ﴿وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ﴾. تمردوا وخالفوا أمر ربهم من خلال ما أمرهم صالح، فكانت صفة العتو ملازمة لعملهم، فكان أن استحقوا العقاب والعذاب الأليم.
المُقدِّم: سماحة الشيخ بقي لدينا دقيقة واحدة من وقت البرنامج نختمها بأبيات الشعر التي ترتبط بموضوع حديثنا التي تعني العتو إلى أين يوصل، كما يقول دعبل الخزاعي وما ورد عن الإمام الباقر عليه السلام:
الشيخ مصطفى العاملي: أحسنت. هذا في الواقع هذا العتو الذي يمارس بحق من أُمروا من قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
| إِنَّ الْيَهُودَ بِحُبِّهَا لِنَبِيِّهَا | أَمِنَتْ مَعَرَّةَ دَهْرِهَا الْخَوَّانِ |
| وَذُو الصَّلِيبِ بِحُبِّ عِيسَى أَصْبَحُوا | يَمْشُونَ زَهْواً فِي قُرَى نَجْرَانِ |
| وَالْمُؤْمِنُونَ بِحُبِّ آلِ نَبِيِّهِمْ | يُرْمَوْنَ فِي الْآفَاقِ بِالنِّيرَانِ |
الخاتمة
المُقدِّم: شكراً جزيلاً سماحة الشيخ، جزاكم الله خير الجزاء.
مشاهدين الكرام، في نهاية اللقاء نشكر سماحة الشيخ مصطفى محمد مصري العاملي، الباحث الإسلامي والأستاذ في الحوزة العلمية. ونشكركم كذلك على حسن المتابعة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
التعليقات
لا توجد تعليقات على هذا المقال بعد. كن أول من يعلق!