حياتنا لحظة.. عِبرة نختمها بعَبرة
حياتنا لحظة.. عِبرة نختمها بعَبرة
قبل نيف وخمسين عاما عندما كنت فتى يافعا كنت جالسا ذات مساء بجانب عمي في منزل الحاج علي عياش قرب منزلنا، والمناسبة هي خطبة ابنتهم الوحيدة الى عمي الوحيد..
صور تلك الأمسية لا تزال حاضرة في ذاكرتي بكثير من تفاصيلها وحضورها..
لم يمض وقت طويل حتى أطلت العروس حاملة صينية أكواب الشاي لتقدمها للحضور.
بعد سنوات قليلة بان الحمل الأول، وبرزت حاجة ماسة الى علاج في القلب، وكانت الخيارات القاسية، فكان القرار الصعب، وكان التحدي، وكانت العناية الإلهية.
كان كلام الدكتور لوالدها قاسيا: عليكم الاختيار بين حياة الام وبين حياة الجنين.
رحم الله والدها فقد كان مؤمنا وأخذ القرار الصعب قائلا للدكتور بعد الاستخارة:
أريد الاثنين معا، لن أقبل التضحية بأي منهما، قم بواجبك والباقي على الله..
رضخ الطبيب على مضض وهو يتوقع وفاة الام، وربما الاثنين معا، ولكن العناية الإلهية فرّحت قلب الاب المتكل على ربه، فكانت المفاجأة للطبيب قبل ان تكون لغيره، وضعت ابنها وانتصرت إرادة الحياة، فكانت العبرة الاولى.
بعد سنوات ساء الوضع الصحي لام علي، وكان القرار الصعب بإجراء عملية جراحية للقلب في مستشفى الحسين في عمان، الأردن، في العام 1977رغم نسبة الخطورة المرتفعة ، وكانت العناية الإلهية حاضرة لتتكلل العملية بالنجاح ولترزق بعدها على مدى عقد من السنين او يزيد بستة أولاد آخرين بنات وبنين.
استذكرت العام 1979 و قرار العودة الى لبنان من الامارات العربية المتحدة مصطحبا ام علي وطفليها بعد أن امضيت بضعة أشهر في منزل عمي في مدينة العين، واستقرت مع طفليها في بيروت بعيدا عن الاحداث المؤلمة في ذاك الوقت في الجنوب، وتشاء الاقدار ان تصدم سيارة الطفل الصغير امام منزلهم في برج البراجنة وتنكسر الجمجمة، وتتدخل العناية الإلهية من جديد فيتجاوز الطفل حالة الخطر الشديد ،ويعود الى الحياة من جديد..
في العام 2005 تذهب ام علي لأداء العمرة ، وبعد ان تكمل مناسكها تصاب بجلطة دماغية وهي في باحة المسجد النبوي الشريف، ويتوقع الجميع أياما قليلة لتودع الحياة، ولكن الإرادة الإلهية تمنحها الحياة من جديد وتمضي فترة في المستشفى ولكن ثمن بقاءها على قيد الحياة كان
فقدانها القدرة على النطق، وعلى الحركة بنشاط وحيوية، ولكن الله عوضها عن ذلك بروح معنوية مرحة عالية واجهت فيها كل الصعوبات طوال ستة عشر سنة والى اليوم، رغم حاجتها في السنوات الأخيرة الى الاوكسجين في اكثر اوقاتها..
اليوم وبعد رحلة العمر المليئة بالعبر يتوقف قلب ام علي عن الخفقان فتسلم الروح..
استعرضت هذا الشريط من الحياة ، وإذ به لا يزيد عن لحظة...
( واحتفظ بالكثير من الخواطر والتفاصيل والارشيف.. ربما لوقت آخر )
نعم الحياة لحظة.. .. عِبرة نختمها بعَبرة.
غدا موعد دفن الجسد في الساعة الواحدة ظهرا..
ربما لن يصل ولداك القادمان من المهجر الا بعد هذا الوقت.
لقد سبقتنا روح ام علي من عالمنا المادي الذي نعيشه في مرحلة وجودنا الرابعة الى عالم البرزخ، عالم الأرواح في مرحلة الوجود الخامسة، فحق أن يقال لمن رحل من عالمنا: هم السابقون ونحن اللاحقون.
موعد لقاء الأجساد ثانية هناك في مرحلة المحشر في حياتنا السادسة، قبل ان ينتقل الجميع الى مرحلة الخلود الدائم في المرحلة السابعة والاخيرة.. هناك ..فريق في الجنة وفريق في السعير..
جعلك الله وإيانا من فريق أصحاب الجنة..
الى روحك نور الصباح عياش مصري ثواب الفاتحة..