استوقفني ظهر الاربعاء الفائت – أمس الاول - إعلان على باب الحسينية لم يكن موجودا عند دخولي اليها، فوقفت أقرأ ما فيه، وكان دعوة لحضور مجلس فاتحة وعزاء سيقام يوم الجمعة -( أي اليوم)- في الذكرى السنوية التاسعة للفقيد الراحل.
قررت حضور هذا المجلس لما أحمله من بعض الذكريات القديمة ولكي نقرأ له الفاتحة.
اتصلت صباح اليوم بأخي واتفقنا على الذهاب معا فالتقينا أمام حرم السيدة المعصومة – في قم - و توجهنا نحو الحسينية ، وصلنا في البداية فشاهدت عددا من المشايخ يقف خارج الباب وكنت أظنها ستكون خالية في بداية الوقت فلربما تمتلئ قبيل الظهر، فلماذا يقف هؤلاء في الشارع ؟
لم أتأخر في اكتشاف حقيقة لم تكن في البال، وهي أن الحسينية ممتلئة ، بل وأن الغرف الجانبية أيضا مفتوحة وممتلئة ولم يكن من مجال للجلوس بعد أن رحب بنا الواقفون في المدخل إلا أن نجلس قبالة المنبر حيث كان مقرئ القرآن يتلوا بعض السور فيما كان الكثيرون يقرأون في الاحزاب الصغيرة التي توزع عليهم .
ما أن أكملت قراءة حزب من القرآن الكريم حتى صعد المنبر، خطيبُ المجالس الحسينية ، والمعروف بأنه خطيب مجالس المراجع والعلماء ، السيد آل طه ، فابتدأ حديثه بعد الصلاة على النبي وآله بالاية الكريمة : إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت : 30].
لمجالس السيد آل طه نكهة خاصة وأثر خاص، فهذا السيد الذي بلغ من العمر عتيا، ويمشي ببطء متكئا على عصاه كي يصعد المنبر تراه يجذب الحضور الى الاستماع اليه بسحر بيانه، فهو لا يملك صوتا مميزا تعلو فيه النبرات وتخفو حسب الموضوع، بل له نمط خاص يبدع فيه بعمق بيانه وغزارة كلماته، فينجذب الجميع من كل المستويات الى كلامه، وكل يشعر أنه استفاد منه فائدة ، وفي كل مجلس ترى منه شيئا جديدا.
أكمل السيد آل طه مجلسه قبيل أذان الظهر، والمجلس مكتظ بالحضور المميز من أعلى الطبقات العلمية ، وكان من أبرز الحضور أستاذ الأصول بلا منازع المرجع الشيخ حسين الوحيد الخراساني، وعدد من أبناء بيوتات المراجع العظام ووكلائهم من ذوي العلم والفضل إضافة الى مستويات مختلفة من الناس، فوقف قسم من الحاضرين لكي يخرجوا وبقي قسم آخر جالسا لتناول طعام الغداء كما يبدوا من الاستعدادات التي تبدوا لكل ناظر.
ترددت بين البقاء والخروج ولكنني حسمت الامر وقررت الخروج إفساحا بالمجال امام الحاضرين، وتقدمت نحو قبر الراحل في الحسينية وقرأت الفاتحة متجها نحو الباب.
وقبل أن أخرج استوقفني أحد الاصدقاء ملحا علي بالبقاء ولم يقبل اعتذاري بل دعاني للدخول الى غرفة جانبية فاستجبت له ودخلت.
جلست في الغرفة قبالة صورة على الجدار وبدأوا بتوزيع الطعام بعد أن مدت السفرة، كان الطعام عبارة عن صحن من الارز والدجاج مطبوخ على الطريقة الايرانية المعروفة، فهو الطبق المشهور (چلو مرغ ) .
وهنا بين الصورة وطبق الأرز عادت بي الذاكرة أكثر من ثلاث عقود من السنين، الى أكثر من خمس وثلاثين سنة.
ارتسمت صورة تلك الايام في مخيلتي وعدت الى تلك الحقبة لأعيش تفاصيلها ومحطاتها وذكرياتها ولم أكن قد تجاوزت عشر سنين من عمري.
كنا في تلك الفترة نعيش في النجف الاشرف، مدينة أمير المؤمنين علي عليه السلام، وحاضنة الحوزة العلمية منذ الف سنة عندما هاجر بل هجر اليها شيخ الطائفة الشيخ الطوسي من بغداد بعد إحراق مكتبته وداره، في حملة قادها مجسمة الحنابلة ضد أتباع أهل البيت عليهم السلام – والتاريخ يعيد نفسه -.
في تلك الفترة كان والدي قد رفض عودتي لمتابعة دروسي في مدرسة منتدى النشر، بعد أن صادرها وأممها نظام البعث في العراق الذي لم يكن قد مضى على استيلاءه على الحكم اكثر من سنة.
لقد تمت مصادرة المدرسة وفرضت عليها مناهج تعليمية خاصة، ورفعت بها الشعارات الحزبية التي كان يتغنى بها النظام البعثي وهي:
أمة عربية واحدة *** ذات رسالة خالدة
وحدة حرية اشتراكية!!!
وارتفعت صور القائد المهيب!! أحمد حسن البكر ، ونائبه صدام حسين.
أدرك والدي حفظه الله تعالى بأن هذا التأميم يحمل مؤشرا خطيرا ويدل على مخطط جهنمي يستهدف العراق وتاريخه، وهو ما أثبتته الأحداث التالية التي عصفت بالعراق ولا تزال حتى أيامنا هذه، وإن تعددت الفصول ، فما أن أكملت تلك السنة التي نلت في نهايتها تقدير ممتاز حتى بدأ الصيف مع برنامج خاص وضعه لي والدي لمتابعة دراستي في شتى الميادين التي أرغب فيها على يد أساتذة أقصدهم في بيتهم او في المسجد، وصرت مرافقا لوالدي في معظم أوقاته فأخرج معه من المنزل عندما يذهب الى درسه ، أتمشى حينا وأجلس معه في درسه أحيانا وأذهب الى موعد درس لي أحيانا أخر.
لقد فتحت هذه المنهجية أمامي آفاقا واسعة من المعرفة والعلاقات ، فلم يكن لدي أصدقاء من عمري إجمالا، ولم أكن ألعب مع أحد من عمري، بل كان زملاء الوالد وأصدقاؤه وأساتذته هم دائرة علاقاتي ومعارفي رغم التفاوت الكبير، وصرت معروفا لديهم، أو لدى أكثرهم كوني أعيش حالة فريدة لم يألفها المجتمع النجفي.
لم تكن علاقات والدي مقتصرة على زملاءه أو على أساتذته بل كانت تتعداها الى دائرة واسعة من ذوي العلم والفضل والمكانة المرموقة ، فكان يقصد هؤلاء في أيام العطل وشتى المناسبات ، ليتباحث معهم في مسألة ، أو يسألهم عن موضوع، أو يتناقش معهم في أمر بعيدا عن نمط العلاقات العادية التي تحكم الافراد في علاقاتهم.
كان يَعتمد على بعض من يُشهَد له بالمعرفة والاطلاع في أخذ المشورة والنصيحة، وكانت النجف الاشرف في تلك الفترة تمتاز عما نعيشه الآن في مدينة قم وتعيشه الحوزة اجمالا بوجود علاقة أبوية بين الاستاذ وطلابه، فلم تكن العلاقة منحصرة بين أستاذ يلقي محاضرته أو يشرح درسه وتلميذ يستمع اليه بل تتعداها الى متابعة من قبل الاستاذ لشؤون تلميذه من أكثر من ناحية.
بل وأكثر من ذلك ، كان الطالب الجديد في الحوزة يلجأ الى شخص من ذوي العلم والفضل فيتخذه موجها له ويستمع الى نصائحه ، بل ويخضع لاختبار عنده، فينصحه العالم العارف بأن يدرس النحو مثلا عند فلان، والفقه عند فلان والبلاغة عند فلان وهكذا.
كان نمط العلاقة هذا يؤسس لنمط خاص من التربية نفتقد اليه في زماننا ولا أنسى مثلا أننا عندما رزقنا بأختي الصغيرة كانت لدينا رغبة في إطلاق اسم عليها، ولكن والدي غير رأيه وأطلق عليها اسم خديجة تيمنا باسم المظلومة خديجة الكبرى استجابة لاختيار أستاذه الشهيد السيد عبد الصاحب الحكيم.
وفي أحد أيام الجمعة كنا مع والدي إضافة الى أخواي اللذان يصغراني ببضع سنين،- والذي صاحبني أحدهما اليوم الى مجلس الفاتحة، وهاتفني الاخر اليوم من الصين - كنا في زيارة لأستاذ استاذ والدي، أستاذ الشهيد السيد عبد الصاحب الحكيم، واستاذ الشهيد السيد محمد باقر الصدر، في زيارة الى عالم تبدوا عليه علائم الوقار، إلى عالم غدا بعد سنين قلائل، مرجعا من المراجع الكبار الذين اختلفت حولهم الاراء ، لا لعلمه ولا لفقاهته ، بل لمواقف يؤمن بها ويخالفه عليها آخرون، هذا المرجع الكبير الذي غيبه الموت سريعا هو الذي حضرت اليوم مع أخي مجلس الفاتحة في حسينيته حيث دفن و الذي أقيم في الذكرى السنوية التاسعة لرحيله.
إنه المرجع الراحل السيد محمد الروحاني.
لا شك إن أخي علي يتذكر رحلتهم الى كربلاء، بل وحتى أولاد السيد يذكرونها، إنها آخر سنة كان قد سمح بها النظام البعثي في العراق بأن يتوجه المؤمنون مشيا لزيارة سيد الشهداء في كربلاء في ذكرى الاربعين، بعد أن منع مواكب التطبير في عاشوراء، كان ذلك عام 1974 م .
في تلك السنة قرر والدي مع عدد من اللبنانيين في النجف الاشرف الذهاب مشيا الى كربلاء، وبما أنه كان سيغيب لعدة أيام فلم يكن من الممكن أن أذهب معه ، وكان عليّ أن أبقى مع والدتي وأخوتي وذهب حينذاك أخي علي.
توجه والدي وأخي نحو الحرم العلوي الطاهر كي يصلوا الظهر ويزوروا وينطلقوا نحو كربلاء ، ولكن لم يحضر أحد من اللبنانيين الى ذاك المكان حسب الموعد المتفق عليه.
لم يرجع والدي الى المنزل فقد قرر الذهاب بمفرده ومعي أخي، فمر بعد خروجه من حرم أمير المؤمنين عبر السوق الكبير واشترى علما عليه ( يا حسين ) ليحمله أخي ويتجها بمفردهما مشيا نحو كربلاء ومعهما شنطة صغيرة فيها بعض الحوائج.
ما أن غادرا مدينة النجف وقبل أن يحل الظلام حتى التقيا بمجموعة من الاشخاص متجهة نحو كربلاء، ومعهم عربة يجرها حمار عليها ما يحتاجون من مؤن وأغراض.
كان على رأس تلك المجموعة السيد محمد الروحاني.
ما أن وصل والدي وأخي والتقيا به حتى وجه كلامه وبشكل جازم نحو أخي: أنت تحمل العلم فأنت قائد الحملة، وضعوا الشنطة في العربة، وتسيرون معنا.
حدثني والدي عن تلك الرحلة بأنهم عندما وصلوا الى خان النص باتوا ليلة هناك وتجمع عدد من الشخصيات العلمية والقضائية والامنية ، وكانت سهرة في احدى الخيم، وبينما كان والدي يناقش بعض المسؤولين في المنطقة ممن حضر الجلسة حول بعض الافكار، مبيّنا فشل الانظمة الوضعية ، وأن الحل لمشاكل الامة يكون باتباع مناهج الاسلام ، التفت أحدهم الى والدي سائلا: هل أنت لبناني ؟
أجابه والدي: نعم .
قال له: أنتم اللبنانيون ..
وقبل أن يكمل قاطعه والدي قائلا: إن مقياس التفاضل في الاسلام هو ما ذكره القرآن الكريم : يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات : 13].
وما أن خرج الجمع حتى التفت السيد الى والدي قائلا:
يا أبا مصطفى ، أنت هنا في العراق ، ولست في لبنان، لا بد من أن تكون حذرا.
هذه الرحلة مما لا شك بأن والدي وأخي يتذكراها جيدا.
تذكرت تلك الحكاية وتذكرت ذالك اليوم الذي ذهبنا قبلها فيه اليه ، وأنا جالس في الغرفة المجاورة لقبره أنظر الى صورته تارة وأنظر الى صحن الأرز الذي وُضع أمامي تارة أخرى، وأتذكر بعض كلماته التي لا تزال ترن في أذني، فقد رفض السماح لنا في ذلك الوقت بمغادرة منزله دون أن نتناول معه طعام الغداء، واستدعى ولديه الصغيرين التوأم السيد علي والسيد حسن الذين استقبلاني اليوم في مدخل الحسينية، استدعاهما لنتاول الغداء معا ، فجلسنا جميعا على تلك السفرة في منزله على الارض كما جلست اليوم، وأحضروا لنا طعاما كطعام اليوم ، طبق من الارز المطبوخ على الطريقة الايرانية وعليه تلك الحبيبات الصفراء بلون الزعفران، مع الحبوب الحمراء ذات النكهة الحامضة، والمعروفة عند الايرانيين ( زرشك)، ومع طبق الأرز هذا فخذ من الدجاج .
بالطبع لم أكن في ذلك الوقت أدرك أن هذا الطبق من الطعام هو طبق مميز عند الايرانيين، وبما أنني لم أكن منذ صغري ممن يحب أكل اللحم فقد اكتفيت بأكل الأرز مع شيء من اللبن، وكذلك فعل أخواي.
لفت سلوكنا هذا نظر السيد ونظر باستغراب نحو والدي قائلا: لماذا لا يأكلون؟
قل لهم أن يأكلوا..
حاول والدي أن يطعمنا شيئا من اللحم ولكن لم تكن النتيجة كما كان يرغب السيد فأجابه والدي : إن الاولاد عندي لا يرغبون بأكل اللحم.
فضحك رضوان الله عليه وقال بابتسامة :
يا أبا مصطفى .. إن عند أولادك زهد طبيعي.
تذكرت ذاك الغداء في النجف أثناء تناولي الغداء في قم، وتعمدت أن لا أبقي في الصحن شيئا وكأني أخاطب صورته أمامي وهو في قبره خلفي، ها قد أكلت الطعام بأكمله ولم أزهد فيه.
وقفت و قبل أن أخرج مودعا قرأت الفاتحة .
|