السؤال: هل أن برّ الوالدين واجب أم مستحب؟ وما هي حدوده وكيف يتحقق؟
وهل أن ترك البر موجب للعقوق؟ وكيف يتحقق ؟ وما هي احكامه وآثاره؟
الجواب: مما لا شك فيه أن بر الوالدين من الأمور الحسنة عقلا والواجبة شرعا، بل هو من أوجب الواجبات، وبالتالي فإن عقوقهما من كبائر المحرمات، ولكليها أي البر والعقوق، آثار في الدنيا وفي الاخرة، والأدلة على ذلك أربعة:
الدليل الاول: هو العقل، إذ مما لا شك فيه عند جميع العقلاء، أن برّ الوالدين من الامور التي يراها العقل حسنة بذاتها بل ويراها مطلوبة وممتدحة عند جميع الناس بمعزل عن عقائدهم، وتركه مورد للمذمة.
وهو ما عليه الفطرة الانسانية السليمة التي تمتدح من يكون بارا بوالديه باعتباره أدنى مراتب الوفاء، وتذم من يعقّهما باعتباره أنه من أبرز مظاهر الجحود والنكران، إذ من لا يبرّ والديه لا يمكن ان يكون انسانا صالحا في المجتمع مع بقية الناس.
ولعل ابلغ تعبير عن ذلك ما ورد بيانه عن الامام زين العابدين عليه السلام في رسالة الحقوق ذات البعد الانساني الراقي، حيث استعمل عليه السلام دليلا عقليا لبيان حق الوالدين مستشهدا بما لا ينكره انسان، مبينا دور الام أولا ثم الأب فقال: وَ أَمَّا حَقُ أُمِّكَ فَأَنْ تَعْلَمَ أَنَّهَا حَمَلَتْكَ حَيْثُ لَا يَحْتَمِلُ أَحَدٌ أَحَداً، وَ أَعْطَتْكَ مِنْ ثَمَرَةِ قَلْبِهَا مَا لَا يُعْطِي أَحَدٌ أَحَداً وَ وَقَتْكَ بِجَمِيعِ جَوَارِحِهَا وَ لَمْ تُبَالِ أَنْ تَجُوعَ وَ تُطْعِمَكَ وَ تَعْطَشَ وَ تَسْقِيَكَ وَ تَعْرَى وَ تَكْسُوَكَ وَ تَضْحَى وَ تُظِلَّكَ وَ تَهْجُرَ النَّوْمَ لِأَجْلِكَ، وَ وَقَتْكَ الْحَرَّ وَ الْبَرْدَ لِتَكُونَ لَهَا، فَإِنَّكَ لَا تُطِيقُ شُكْرَهَا إِلَّا بِعَوْنِ اللَّهِ وَ تَوْفِيقِه.
وعن حق الاب فيقول عليه السلام: وَ أَمَّا حَقُّ أَبِيكَ فَأَنْ تَعْلَمَ أَنَّهُ أَصْلُكَ، فَإِنَّكَ لَوْلَاهُ لَمْ تَكُنْ، فَمَهْمَا رَأَيْتَ مِنْ نَفْسِكَ مَا يُعْجِبُكَ فَاعْلَمْ أَنَّ أَبَاكَ أَصْلُ النِّعْمَةِ عَلَيْكَ فِيهِ، فَاحْمَدِ اللَّهَ واشْكُرْهُ عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ وَ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّه.
الدليل الثاني: ما ورد في القرآن الكريم في عدد من الأيات.. قال تعالى: وقَضىٰ رَبُّكَ أَلاّٰ تَعْبُدُوا إِلاّٰ إِيّٰاهُ وبِالْوٰالِدَيْنِ إِحْسٰاناً إِمّٰا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمٰا أَوْ كِلاٰهُمٰا فَلاٰ تَقُلْ لَهُمٰا أُفٍّ ولاٰ تَنْهَرْهُمٰا وقُلْ لَهُمٰا قَوْلاً كَرِيماً* واخْفِضْ لَهُمٰا جَنٰاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمٰا كَمٰا رَبَّيٰانِي صَغِيراً. وقال تعالى: «ووَصَّيْنَا الْإِنْسٰانَ بِوٰالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلىٰ وَهْنٍ وفِصٰالُهُ فِي عٰامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي ولِوٰالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ. وإِنْ جٰاهَدٰاكَ عَلىٰ أَنْ تُشْرِكَ بِي مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاٰ تُطِعْهُمٰا وصٰاحِبْهُمٰا فِي الدُّنْيٰا مَعْرُوفاً. وفي آية اخرى وَ إِذْ أَخَذْنٰا مِيثٰاقَ بَنِي إِسْرٰائِيلَ لاٰ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّٰهَ وبِالْوٰالِدَيْنِ إِحْسٰاناً.
وحكى سيرة الأنبياء فقال عن يحيى مادحاً له: وبَرًّا بِوٰالِدَيْهِ ولَمْ يَكُنْ جَبّٰاراً عَصِيًّا.
وعن عيسى مادحاً وجَعَلَنِي مُبٰارَكاً أَيْنَ مٰا كُنْتُ وبَرًّا بِوٰالِدَتِي وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبّٰاراً شَقِيًّا
الدليل الثالث: ما ورد في السنة المطهرة عن النبي وأهل بيته عليهم السلام فمن ذلك ما ورد في الكافي، عَنْ أَبِي وَلاَّدٍ الْحَنَّاطِ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ وَ بِالْوٰالِدَيْنِ إِحْسٰاناً مَا هَذَا الْإِحْسَانُ فَقَالَ الْإِحْسَانُ أَنْ تُحْسِنَ صُحْبَتَهُمَا وَ أَنْ لاَ تُكَلِّفَهُمَا أَنْ يَسْأَلاَكَ شَيْئاً مِمَّا يَحْتَاجَانِ إِلَيْهِ وَ إِنْ كَانَا مُسْتَغْنِيَيْنِ أَ لَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ لَنْ تَنٰالُوا الْبِرَّ حَتّٰى تُنْفِقُوا مِمّٰا تُحِبُّونَ قَالَ ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ وَ أَمَّا قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ إِمّٰا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمٰا أَوْ كِلاٰهُمٰا فَلاٰ تَقُلْ لَهُمٰا أُفٍّ وَ لاٰ تَنْهَرْهُمٰا قَالَ إِنْ أَضْجَرَاكَ فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَ لاَ تَنْهَرْهُمَا إِنْ ضَرَبَاكَ قَالَ: وَ قُلْ لَهُمٰا قَوْلاً كَرِيماً قَالَ إِنْ ضَرَبَاكَ فَقُلْ لَهُمَا غَفَرَ اللَّهُ لَكُمَا فَذَلِكَ مِنْكَ قَوْلٌ كَرِيمٌ قَالَ: وَ اخْفِضْ لَهُمٰا جَنٰاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ قَالَ لاَ تَمْلَ عَيْنَيْكَ مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهِمَا إِلاَّ بِرَحْمَةٍ وَ رِقَّةٍ وَ لاَ تَرْفَعْ صَوْتَكَ فَوْقَ أَصْوَاتِهِمَا وَ لاَ يَدَكَ فَوْقَ أَيْدِيهِمَا وَ لاَ تَقَدَّمْ قُدَّامَهُمَا.
وعن نظرة الامام ع لمن يبر والديه وكيفية تعامله وتعامل رسول الله مع البار لوالديه ما ورد في الكافي، عَنْ عَمَّارِ بْنِ حَيَّانَ قَالَ: خَبَّرْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ بِبِرِّ إِسْمَاعِيلَ ابْنِي بِي فَقَالَ لَقَدْ كُنْتُ أُحِبُّهُ وَ قَدِ ازْدَدْتُ لَهُ حُبّاً إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أَتَتْهُ أُخْتٌ لَهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهَا سُرَّ بِهَا وَ بَسَطَ مِلْحَفَتَهُ لَهَا فَأَجْلَسَهَا عَلَيْهَا ثُمَّ أَقْبَلَ يُحَدِّثُهَا وَ يَضْحَكُ فِي وَجْهِهَا ثُمَّ قَامَتْ فَذَهَبَتْ وَ جَاءَ أَخُوهَا فَلَمْ يَصْنَعْ بِهِ مَا صَنَعَ بِهَا فَقِيلَ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ صَنَعْتَ بِأُخْتِهِ مَا لَمْ تَصْنَعْ بِهِ وَ هُوَ رَجُلٌ فَقَالَ لِأَنَّهَا كَانَتْ أَبَرَّ بِوَالِدَيْهَا مِنْهُ.
وفي حديث رَوَاهُ اَلصَّدُوقُ فِي الصَّحِيحِ قَالَ: سَأَلَ عُمَرُ بْنُ يَزِيدَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَنْ إِمَامٍ لاَ بَأْسَ بِهِ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ عَارِفٍ غَيْرَ أَنَّهُ يُسْمِعُ أَبَوَيْهِ الْكَلاَمَ الْغَلِيظَ الَّذِي يَغِيظُهُمَا أَقْرَأُ خَلْفَهُ قَالَ لاَ، تَقْرَأُ خَلْفَهُ مَا لَمْ يَكُنْ عَاقّاً قَاطِعاً. فالامام عليه حكم بسقوط عدالة ذاك الامام العالم العارف!! لأنه عاق لوالديه بإغاظته لهما.
ويعتبره الصادق عليه السلام أنه افضل الاعمال مقرونا بالصلاة والجهاد كما في الكافي، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ حَازِمٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ: قُلْتُ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ قَالَ الصَّلاَةُ لِوَقْتِهَا وبِرُّ الْوَالِدَيْنِ والْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
ويبين الامام الرضا (ع) أن هذه الاحكام تشمل الابوين حتى ولو لم يكونا مؤمنين كما في الكافي، عَنْ مُعَمَّرِ بْنِ خَلاَّدٍ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا عَلَيْهِ السَّلاَمُ أَدْعُو لِوَالِدَيَّ إِذَا كَانَا لاَ يَعْرِفَانِ الْحَقَّ قَالَ ادْعُ لَهُمَا وتَصَدَّقْ عَنْهُمَا وإِنْ كَانَا حَيَّيْنِ لاَ يَعْرِفَانِ الْحَقَّ فَدَارِهِمَا فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي بِالرَّحْمَةِ لاَ بِالْعُقُوقِ.
والامام عليه السلام يرفض أي عذر في عدم بر الوالدين، حتى لو كانا فاجرين ففي الكافي، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ: ثَلاَثٌ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ لِأَحَدٍ فِيهِنَّ رُخْصَةً أَدَاءُ الْأَمَانَةِ إِلَى الْبَرِّ وَ الْفَاجِرِ، وَ الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ لِلْبَرِّ وَ الْفَاجِرِ، وَ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ بَرَّيْنِ كَانَا أَوْ فَاجِرَيْنِ.
وعن تمييز الام ببرّها أولا ما ورد في الكافي عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ وَ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ عَنْ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ فَقَالَ ابْرَرْ أُمَّكَ ابْرَرْ أُمَّكَ ابْرَرْ أُمَّكَ ابْرَرْ أَبَاكَ ابْرَرْ أَبَاكَ ابْرَرْ أَبَاكَ وَ بَدَأَ بِالْأُمِّ قَبْلَ الْأَبِ.
ونجد أن النبي ص قدم بر الوالدة على الجهاد رغم أهميته ففي الكافي عَنْ جَابِرٍ قَالَ: أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ رَجُلٌ فَقَالَ إِنِّي رَجُلٌ شَابٌّ نَشِيطٌ وَ أُحِبُّ الْجِهَادَ وَ لِي وَالِدَةٌ تَكْرَهُ ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ ارْجِعْ فَكُنْ مَعَ وَالِدَتِكَ فَوَ الَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ نَبِيّاً لَأُنْسُهَا بِكَ لَيْلَةً خَيْرٌ مِنْ جِهَادِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ سَنَةً.
وعن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «إنّ رجلاً أتى النبي صلى الله عليه و آله و سلم فقال: أوصني، قال: لا تشرك باللّٰه شيئاً و إن أُحرقت بالنار و عذّبت إلّا و قلبك مطمئنّ بالإيمان، و والديك فأطعهما و برّهما، حيّين كانا أو ميّتين، و إن أمراك أن تخرج من أهلك و مالك فافعل، فإنّ ذلك من الإيمان»
ويبين الامام (ع) الحد الأدنى الذي يتحقق به العقوق ففي الكافي، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (ع) قَالَ: أَدْنَى الْعُقُوقِ أُفٍّ ولَوْ عَلِمَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ شَيْئاً أَهْوَنَ مِنْهُ لَنَهَى عَنْهُ.
وعن حثه على برهما حيين أو ميتين ورد في الكافي قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ: مَا يَمْنَعُ الرَّجُلَ مِنْكُمْ أَنْ يَبَرَّ وَالِدَيْهِ حَيَّيْنِ أَوْ مَيِّتَيْنِ يُصَلِّي عَنْهُمَا وَ يَتَصَدَّقُ عَنْهُمَا وَ يَحُجُّ عَنْهُمَا وَ يَصُومُ عَنْهُمَا فَيَكُونَ الَّذِي صَنَعَ لَهُمَا وَ لَهُ مِثْلُ ذَلِكَ فَيَزِيدَهُ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ بِبِرِّهِ وَ صَلاَتِهِ خَيْراً كَثِيراً.
ويبين النبي ص أثر البر والعقوق في يوم القيامة كما في الكافي عَنْ أَبِي الْحَسَنِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: كُنْ بَارّاً واقْتَصِرْ عَلَى اَلْجَنَّةِ، وَ إِنْ كُنْتَ عَاقّاً فَظّاً فَاقْتَصِرْ عَلَى اَلنَّارِ.
وعن أثر العقوق يوم القيامة ما في الكافي عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ كُشِفَ غِطَاءٌ مِنْ أَغْطِيَةِ اَلْجَنَّةِ فَوَجَدَ رِيحَهَا مَنْ كَانَتْ لَهُ رُوحٌ مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ إِلاَّ صِنْفاً وَاحِداً قُلْتُ مَنْ هُمْ قَالَ الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ.
وفي حديث آخر عن أَبِي جَعْفَرٍ (ع) قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (ص) فِي كَلاَمٍ لَهُ: إِيَّاكُمْ وعُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ فَإِنَّ رِيحَ اَلْجَنَّةِ تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَلْفِ عَامٍ ولاَ يَجِدُهَا عَاقٌّ وَ لاَ قَاطِعُ رَحِمٍ ولاَ شَيْخٌ زَانٍ ولاَ جَارٌّ إِزَارَهُ خُيَلاَءَ إِنَّمَا الْكِبْرِيَاءُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وعن الأثر الدنيوي لبر الوالدين ما ورد عَنِ اَلصَّادِقِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ: بَرُّوا آبَاءَكُمْ يَبَرَّكُمْ أَبْنَاؤُكُمْ وعِفُّوا عَنْ نِسَاءِ النَّاسِ تَعِفَّ نِسَاؤُكُمْ.
وما عَنِ اَلصَّادِقِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُخَفِّفَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ عَنْهُ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ فَلْيَكُنْ لِقَرَابَتِهِ وَصُولاً وبِوَالِدَيْهِ بَارّاً فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ هَوَّنَ اللَّهُ عَلَيْهِ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ وَ لَمْ يُصِبْهُ فِي حَيَاتِهِ فَقْرٌ أَبَداً
ويبين عليه السلام أثر البر يوم القيامة ففي الكافي، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ: يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَيْءٌ مِثْلُ الْكَبَّةِ فَيَدْفَعُ فِي ظَهْرِ الْمُؤْمِنِ فَيُدْخِلُهُ اَلْجَنَّةَ فَيُقَالُ هَذَا الْبِرُّ.
الدليل الرابع: ما قرّره وبيّنه علماؤنا الاعلام عن موضوع البر والعقوق استنادا الى البحث المعمق في النصوص الشرعية المستندة الى الآيات القرآنية والاحاديث الشريفة حيث حكموا بوجوبه وتوسعوا في بيان تفاصيله ومصاديقه، كالإحسان والقول الجميل والتحنن عليهما والرأفة بهما الخ.. فمما ذكروه في كتبهم وفتاويهم:
لا إشكال في حسن البرّ بالوالدين وخاصّة الامّ، كما لا إشكال في قبح إيذائهما وحرمة عقوقهما عقلا وشرعا. والنصوص بذلك متظافرة كتابا وسنّة.
والذي يستفاد من ظواهر بعض الآيات: أنّ برّ الوالدين واجب، فإنّ الظاهر من قوله تعالى: وإِذْ أَخَذْنٰا مِيثٰاقَ بَنِي إِسْرٰائِيلَ لاٰ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّٰهَ وَ بِالْوٰالِدَيْنِ إِحْسٰاناً هو وجوب الإحسان؛ لأنّه الملائم لأخذ الميثاق، ولعلّه لذلك قال الطبرسي في ذيل الآية: «و الإحسان الذي أخذ عليهم الميثاق بأن يفعلوه إلى الوالدين هو ما فرض على امّتنا أيضا من: فعل المعروف بهما، والقول الجميل، وخفض جناح الذلّ لهما، والتحنّن عليهما، والرأفة بهما، والدعاء بالخير لهما، وما أشبه ذلك».
ومثله قوله تعالى: وقَضىٰ رَبُّكَ أَلاّٰ تَعْبُدُوا إِلاّٰ إِيّٰاهُ وبِالْوٰالِدَيْنِ إِحْسٰاناً يدل على وجوب برّهما والإحسان إليهما مطلقاً فالقضاء هنا هو القضاء التشريعي، أي الحكم، فمعنى الآية: وَحَكمَ ربّك ألاّ تعبدوا إلاّ إيّاه، وحَكم بأن تحسنوا إلى الوالدين إحسانا..
والإحسان يقابل الإساءة. وأقلّ الإساءة هو قول كلمة «افّ» فلذلك نهى اللّه تعالى عنها في الآية الشريفة، ولا ينحصر النهي بحالة الكِبَر، وإنّما ذكرت في الآية لحاجة الوالدين إلى الإحسان في تلك الحالة أكثر من غيرها.
والآية قرنت الإحسان بالوالدين بالتوحيد في العبادة، كما قرنت إيذاءهما بالشرك باللّه تعالى في آيات اخر.
و قال السيّد الطباطبائي بالنسبة إلى الإحسان المذكور فيه: «و هذا بعد التوحيد من أوجب الواجبات، كما أنّ عقوقهما أكبر الكبائر بعد الشرك باللّه؛ ولذلك ذكره بعد حكم التوحيد و قدّمه على سائر الأحكام المذكورة».
والذي يراه بعض المحقّقين من الفقهاء هو: أنّ المستفاد من الكتاب والسنّة ليس إلاّ أمرا واحدا وهو حرمة عقوق الوالدين، فكلّ ما انتهى إلى العقوق فهو حرام يجب اجتنابه، وعدّ من جملة الكبائر وبالتالي فإن كان ترك الاحترام والرأفة و الإحسان بالوالدين موجبا لتأذّيهما الذي يحقّق موضوع العقوق فيحرم.
فالمعنى لا تؤذهما بقليل ولا كثير ولاٰ تَنْهَرْهُمٰا أي لا تزجرهما بإغلاظ وصياح وقيل معناه تمتنع من شيء أراداه منك كما قال: وأَمَّا السّٰائِلَ فَلاٰ تَنْهَرْ.
وقُلْ لَهُمٰا قَوْلاً كَرِيماً وخاطبهما بقول رفيق لطيف حسن جميل بعيد عن اللغو والقبيح يكون فيه كرامة لهما واخْفِضْ لَهُمٰا جَنٰاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ أي و بالغ في التواضع و الخضوع لهما قولا وفعلا برا بهما وشفقة لهما والمراد بالذل هاهنا اللين و التواضع دون الهوان من خفض الطائر جناحه إذا ضم فرخه إليه فكأنه سبحانه قال ضم أبويك إلى نفسك كما كانا يفعلان بك وأنت صغير وإذا وصفت العرب إنسانا بالسهولة وترك الإباء قالوا هو خافض الجناح انتهى.
وقال البيضاوي واخْفِضْ لَهُمٰا أي تذلل لهما ..كقوله: واخْفِضْ جَنٰاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ وإضافته إلى الذل للبيان والمبالغة .. واخفض لهما جناحك الذليل.
وخفض الجناح يتنافى مع الضجر والتضجر التبرم وبملء العينين حدة النظر. والرقة المطلوبة تعني رقة القلب وعدم رفع الصوت وهو نوع من الأدب كما قال تعالى: لاٰ تَرْفَعُوا أَصْوٰاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ.
ولا تضع يدك فوق أيديهما والظاهر أن المراد أن عند التكلم معهما لا ترفع يدك فوق أيديهما كما هو الشائع عند العرب أنه عند التكلم يبسطون أيديهم ويحركونها.
وقال المجلسي الاب قدس الله روحه كما نقل ابنه صاحب البحار، المراد أنه إذا أنلتهما شيئا فلا تجعل يدك فوق أيديهما و تضع شيئا في يدهما بل ابسط يدك حتى يأخذا منها فإنه أقرب إلى الأدب وقيل المعنى لا تأخذ أيديهما إذا أرادا ضربك. ولا تقدم قدامهما أي في المشي أو في المجالس أيضا.
لذا نجد أن الشريعة فصلت في ذلك كثيرا ضمن عنوان أوسع من البر وهو حقوق الوالدين، وبينتها بعبارات ونصوص متعددة، وتعدى الامر بوجوب حسن مصاحبتهما ما لو كانا فاسقين، بل لو كانا كافرَين، حتى لو كانا بصدد السعي لإضلاله وإخراجه عن الإيمان، كما هو صريح قوله سبحانه وتعالى: «وإِنْ جٰاهَدٰاكَ عَلىٰ أَنْ تُشْرِكَ بِي مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاٰ تُطِعْهُمٰا وصٰاحِبْهُمٰا فِي الدُّنْيٰا مَعْرُوفاً». فلا يجوز للولد العدول عن حدّ المصاحبة بالمعروف بوجه من الوجوه.
ومن الواضح أن بر الوالدين في نطاقه الواسع شامل للواجب، والمندوب وبالتالي فلا حدّ له في الشريعة. فكثيرة هي مصاديق الوجوب ، والمصاديق الزائدة عن مصاديق الوجوب هي مستحبة.
وبالتالي فإن بر الوالدين ينقسم الى قسمين ، قسم واجب وقسم مستحب،
وحدود البر الواجب ما يكون ضدّ العقوق، وضد الرحمة، إذ أن مقتضى حرمة العقوق وجوب ضدّه ، وبناءً على تلك الملازمة المؤيّدة بالنصوص الواردة عن رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم قال: إنّ اللّٰه بعثني بالرحمة لا بالعقوق»، فقد جعل العقوق مقابل الرحمة، فترك البرّ و الرحمة عقوق.
و المستفاد من الأخبار لزوم دوام برّ الوالدين حتى بعد موتهما و لو بالدعاء لهما، و إلّا فيعود الولد عاقّاً، ففي الفقه الرضوي: «عليك بطاعة الأب و برّه... تابعوهم في الدنيا أحسن المتابعة بالبِرّ، و بعد الموت بالدعاء لهم و الترحّم عليهم؛ فإنّه روي: أنّ من بَرّ أباه في حياته و لم يدعُ له بعد وفاته سمّاه اللّٰه عاقاً».
و من الواضح ان العقوق ضد البر فعدم البر يعني العقوق. وحرمة العقوق من الكبائر كما بينته بعض الأحاديث السابقة،
تفصيل الشهيد الأول عن حقوق الوالدين
ذكر الشهيد الاول قدس الله سره في قواعده قاعدة تتعلق بحقوق الوالدين وهي: لا ريب أن كل ما يحرم أو يجب للأجانب يحرم أو يجب للأبوين وينفردان بأمور.
الأول: تحريم السفر المباح بغير إذنهما وكذا السفر المندوب وقيل بجواز سفر التجارة و طلب العلم إذا لم يمكن استيفاء التجارة و العلم في بلدهما كما ذكرناه فيما مر.
الثاني: قال بعضهم تجب عليه طاعتهما في كل فعل وإن كان شبهة فلو أمراه بالأكل معهما في مال يعتقده شبهة أكل لأن طاعتهما واجبة وترك الشبهة مستحب.
الثالث: لو دعواه إلى فعل وقد حضرت الصلاة فليتأخر عن الصلاة وليطعهما لما قلناه.
الرابع: هل لهما منعه من الصلاة جماعة الأقرب أنه ليس لهما منعه مطلقا بل في بعض الأحيان لما يشق عليهما مخالفته كالسعي في ظلمة الليل إلى العشاء والصبح.
الخامس: لهما منعه من الجهاد مع عدم التعيين لِمَا صَحَّ: أَنَّ رَجُلاً قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ وَ الْجِهَادِ فَقَالَ هَلْ مِنْ وَالِدَيْكَ أَحَدٌ قَالَ نَعَمْ كِلاَهُمَا قَالَ أَ تَبْغِي الْأَجْرَ مِنَ اللَّهِ فَقَالَ نَعَمْ قَالَ فَارْجِعْ إِلَى وَالِدَيْكَ فَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا.
السادس: الأقرب أن لهما منعه من فروض الكفاية إذا علم قيام الغير أو ظن لأنه حينئذ يكون كالجهاد الممنوع منه.
السابع: قال بعض العلماء لو دعواه في صلاة النافلة قطعها لِمَا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: أَنَّ امْرَأَةً نَادَتِ ابْنَهَا وَ هُوَ فِي صَلاَتِهِ قَالَتْ يَا جُرَيْحُ قَالَ اللَّهُمَّ أُمِّي وَ صَلاَتِي قَالَتْ يَا جُرَيْحُ فَقَالَ اللَّهُمَّ أُمِّي وَ صَلاَتِي فَقَالَ لاَ يَمُوتُ حَتَّى يَنْظُرَ فِي وُجُوهِ الْمُومِسَاتِ الْحَدِيثَ.
وَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ قَالَ: لَوْ كَانَ جُرَيْحٌ فَقِيهاً لَعَلِمَ أَنَّ إِجَابَةَ أُمِّهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلاَتِهِ. و هذا الحديث يدل على قطع النافلة لأجلها ويدل بطريق أولى على تحريم السفر لأن غيبة الوجه فيه أكثر وأعظم و هي كانت تريد منه النظر إليها و الإقبال عليها.
الثامن: كف الأذى عنهما و إن كان قليلا بحيث لا يوصله الولد إليهما و يمنع غيره من إيصاله بحسب طاقته.
التاسع: ترك الصوم ندبا إلا بإذن الأب و لم أقف على نص في الأم.
العاشر: ترك اليمين و العهد إلا بإذنه أيضا ما لم يكن في فعل واجب أو ترك محرم ..
التعليقات
لا توجد تعليقات على هذا المقال بعد. كن أول من يعلق!