• الموقع : كتاباتي- صفحة الشيخ مصطفى مصري العاملي .
        • القسم الرئيسي : كتاباتي .
              • القسم الفرعي : مقالات .
                    • الموضوع : بداية الحكاية لقصة الانحراف .

بداية الحكاية لقصة الانحراف

بداية الحكاية لقصة الانحراف

قبل الفين من السنين وتسع، وفي مثل هذه الليلة الباردة خرجت فتاة المعبد ماريا والتي أسماها القرآن الكريم مريم، خرجت من ذاك المعبد التي تفرغت فيه لعبادة ربها استجابة لنذر والدتها امرأة عمران التي حكى الله فيها قرآنا يبين قصتها من قبل ولادتها.

لقد كانت لولادتها قصة..ولتربيتها قصة..ولحياتها قصة.. ولحملها قصة..ولوضعها قصة..وخاتمة قصصها أن كان لها مع ابنها قصة..

قبل ولادة مريم

لم تكن امرأة عمران قد حققت حلمها الذي يراود كل امرأة تدخل في عالم الزوجية لتكون مدماكا من مداميك المجتمع، لتكون أما تجسد حضورها في هذه الحياة من خلال كونها جسرا بين جيل وجيل.. إذ بهذا تستمر الحياة..

فلو توقفت النساء عن الانجاب لتوقفت مسيرة الحياة.. بل لانعدمت الحياة البشرية على ظهر هذه الارض..

وكما تحلم كل فتاة بالزواج فإنها تحلم أيضا بان تصير أما ليكتمل نضجها الحياتي، وتشعر بان لها كيانا مؤثرا في هذا الكون.

وهكذا كانت امراة عمران.. فبعد أن حققت حلمها الاول بأن تزوجت من عمران، تأخرت في تحقيق حلمها الثاني بأن تصير أما..

وبدأ القلق يسيطر على فكرها وشعورها..

وفي مثل هذه الحالات التي يشعر فيها الكائن البشري بالضعف، وعدم القدرة على تحقيق أمنياته فإنه يلجأ الى القدير العلي..

يتجرد من ذاتياته ، وينسلخ عن أهواءه ويقترب أكثر من ربه.. وكلما كان اقترابه صادقا كان الاثر محسوسا أكثر..

وهنا وبعد أن أعيتها الحيلة توجهت صادقة الى ربها .. متضرعة اليها.. ملزمة نفسها بعهد عاهدت ربها عليه..

واستجاب الله لها دعاؤها وتضرعها ..

إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35)آل عمران.

وانتظرت ان تضع مولودها التي ارادته أن يكون خادما في معبد الرب..

لم تكن ترغب بأن يعيش مولودها معها كما ترغب كل الامهات، بل اكتفت بأن تنال شرف الامومة واكتفت بأن يكون حين ولادته في المعبد شكرا وامتنانا لاستجابة دعواها..

بعد الولادة

لقد حان وقت الولادة وحدث ما لم يكن متعارفا عليه في مورد وفاء النذر، إذ كانت خدمة المعبد مختصة بالذكور، ولم يكن هناك من الاناث من يقوم بهذا الدور.

فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ

لقد أصرت على الوفاء بالنذر، وأرادت أن تكسر بذلك العرف السائد في زمانها، كان عرفا يقضي بأن يختص الذكور في خدمة المعبد، ولم تكن الانثى ممن يناله هذا الشرف فأبلغت من يعنيهم الامر من الكهنة برغبتها واصرارها على وفاء نذرها.

واختلف الكهنة فيما بينهم.. من هو الذي سينال شرف رعاية الوافد الجديد؟

من هو الذي سيجل له التاريخ أنه أول معلم وموجه لفتاة المعبد الاولى ؟

كل يرغب في نيل هذا الشرف، وكل يتمناه لنفسه، وكل صار يسعى اليه.

لم يرغب أحد منهم على التنحي جانبا لصالح الاخر، فكيف يؤثر احدهم الاخر على أمر يرى ان فيه مكانة لا يدانيها سواه..

لم يبق أمام الكهنة سوى اللجوء الى القرعة.. فهي التي ستحسم النزاع بينهم..

وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ

وكان حسم النزاع لصالح زوج خالتها، إنه النبي زكريا عليه السلام ، إنه الذي اختارته ارادة السماء لرعاية تلك الفتاة التي شكلت مفصلا هاما في تاريخ البشرية، إنه الاقدر على القيام بهذه المهمة.

فتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا

في المعبد

دخلت مريم المعبد برعاية زكريا الذي اوكلت اليه السماء أمر رعايتها، وكانت نموذجا جديدا لم يتعرف على مثله الكهنة من قبل.

لقد ترقت مريم في قربها من الباري عز وجل، فتخطت في عبادتها مراتب اولئك الكهنة، وقاربت مراتب الانبياء فجاءها الخطاب الذي ارتقى بها الى مصاف المقربين:

وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ

وهذا الاصطفاء وهذه المرتبة الاستثنائية توجب عليها سلوكا استثنائياً

 يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ

فتتفانى مريم في رسالتها، وتفوق في مرتبتها ما كانت تحلم به امها من مكانة مولودها في المعبد..

فهذه الانثى تخطت في مكانتها وموقعها ما كان يمكن ان يصل اليه خادم في المعبد..

ويريد الله تعالى ان يظهر شيئا من مقامها ، ويتفاجأ بذلك زكريا، كبير رعاة المعبد.

كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ

المعجزة الكبرى

 كيف كانت نظرة خدم المعبد لفتاة تعيش بينهم وحيدة من بني جنسها في غرفتها، يرعى أمرها نبي من الانبياء، تتمايز عنهم في كل شيء، فهى أنثى، وها هي تفوق في عبادتها كل ما يبذلوه من جهد، ويأتيها ما لم يأت أحدا منهم ، يأتيها زرقها بكرة وعشيا.

لا شك ان من صفيت قلوبهم منهم كانوا يرون فيها نموذجا اختاره الله لحكمة، ومن اعترى نفسه شيئا من الضعف كان يحمل في نفسه شيئا سيظهر في ساعة ما عندما يحصل ما لم يكن في الحسبان..

في مثل هذه الليلة الباردة شعرت بشيئ ما لم تشعر به في حياتها من قبل، لم تدر ما الذي يحصل معها، ماذا عليها أن تفعل؟

لم يكن أمامها إلا أن تبتعد عن المعبد لترى ما الذي سيحصل معها:

وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا

اجتمعت لديها مشاعر الاطمئنان والرجاء، لقد ابتعدت عمن يعيش بالقرب منها، فلن يشعر احد بما تشعر به، أرادت ان تعيش تلك اللحظات بعيدة عن البشر، وتحقق لها ما ارادت الا ان مفاجأة كانت بانتظارها.

فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا

مفاجأة مذهلة لها، لقد اختارت الانزواء بعيدا عن الناس وها هو شاب ينتصب أمامها واقفا بدون استئذان.

راودتها المشاعر المختلفة، تأرجحت بين أن يكون الواقف جنيا منحرفا أو ملاكا تقيا، لذا قررت مخاطبة الجانبي الايماني المحتمل في نفسية هذا الماثل أمامها

قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا

وجاءها الجواب المطمئن من جهة ، والمفاجئ والصاعق من جهة أخرى

قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا

ارتعدت فرائصها من هول ما سمعت،  فبعد أن اطمئنت لعدم كون هذا الواقف شقيا وعرفت أنه رسول ربها اضطربت من الخبر، إذ كيف يمكن ان يتحقق ذلك دون أن تخرج عن نواميس الطبيعة، السليمة منها او المنحرفة

قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لي‏ غُلامٌ وَ لَمْ يَمْسَسْني‏ بَشَرٌ وَ لَمْ أَكُ بَغِيًّا

وكان الجواب الواضح السلس المبشر القاطع

قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَ لِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَ رَحْمَةً مِنَّا وَ كانَ أَمْراً مَقْضِيًّا

وكانت النتيجة سريعة ، وما عليها إلا ان تتدبر أمرها مع هذا الحدث الجليل

فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا

لقد ابتعدت مريم عن المعبد، وعن عيون المحيطين بها سواء تلك العيون الفارغة إلا من الغير والحسد، او تلك العيون الحانية عليها والعطوفة.. ماذا عليها ان تفعل امام الواقع الجديد التي تقر بعجزها عن تحمل نتائجه التي لن يصدقها أحد، من قريب او بعيد وتمنت أنها لم تكن على قيد الحياة، ولم تتحقق فيها دعوة أمها، ولم تكن تلك الانثى الاولى في خدمة المعبد

فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى‏ جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَني‏ مِتُّ قَبْلَ هذا وَ كُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا

لا شك أن أنفاسها كادت تنكمد أسى وخوفا ورعبا وسرعان ما جاءها النداء المطمئن من هذا الجنين الذي تكون خلافا لكل نواميس الطبيعة ، وها هو يتكلم مبينا ومطمئنا خلافا لنواميس الطبيعة.

فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَني‏ قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا

وتابع حديثه موجها لها نحو ما يجب عليها ان تصنعه لنفسها في مثل تلك الحالة التي لا يمكن لامرأة ان تنفرد عن بنات جنسها

وَ هُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا

ثم عاد ليرسم لها برنامجها العملي وطريقة خلاصها من حالة الرعب التي تعيشها من خلال التهمة الجاهزة لها

فَكُلي‏ وَ اشْرَبي‏ وَ قَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولي‏ إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا

وبدأت مرحلة جديدة في حياة مريم، إنها ستسير وفق البرنامج التعليمي الذي تلقته من ابنها الوليد وهي مستعدة لسماع الكلام الاسوأ في حياتها

فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا

يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَ ما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا .

مواجهة الحقيقة

وأمام هذا الكلام القاسي لم يكن أمامها الا الصمت  واستبدلت الكلام بالاشارة

فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا

الى تلك اللحظة كانت مريم قد عاشت وتلمست سلسلة من المعجزات التي ادركت حقيقتها، ولم تكن تملك خيار رفضها، وكل ما حصلت عليه هو تطمينها بأنها لن تكون وحيدة في تلك المواجهة التي تفوق قدرات العقل البشري على التحمل، فهي الفتاة العذراء التي لم يمسسها بشر والتي تربت في المعبد متفرغة للعبادة ، وهي التي كان يأتيها رزقها بكرة وعشياً في هذه الحياة قبل تلك الحياة، وها هي الان تواجه الاتهام الاصعب في حياتها بالصمت لتظهر حينئذ أول معجزة امام الملأ المحدقين بها، ممن افترض ان ساعة الشماتة قد أتته على غير موعد، وبين من ينتظر البراءة الساطعة، وكان الحدث الاعجازي الجديد بالنسبة لكل هؤلاء:

قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَني‏ نَبِيًّا

وَ جَعَلَني‏ مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَ أَوْصاني‏ بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا

وَ بَرًّا بِوالِدَتي‏ وَ لَمْ يَجْعَلْني‏ جَبَّاراً شَقِيًّا

وَ السَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَ يَوْمَ أَمُوتُ وَ يَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا

وهنا ابتدأت حكايتنا..

(وللحديث تتمة) 

 


  • المصدر : http://www.kitabati.net/subject.php?id=79
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2009 / 01 / 02
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 02 / 3