• الموقع : كتاباتي- صفحة الشيخ مصطفى مصري العاملي .
        • القسم الرئيسي : كتاباتي .
              • القسم الفرعي : الى كربلاء .
                    • الموضوع : الى كربلاء .. رحلة وخواطر ومشاهدات ( القسم الاول ) .

الى كربلاء .. رحلة وخواطر ومشاهدات ( القسم الاول )

منذ أقل من سنتين كنت شاهدا في كربلاء في أول عاشوراء بعد سقوط الطاغوت وكنت شاهدا على مدى الحقد الاموي الدفين .. وكتبت موضوعا على حلقات بعنوان :

كربلاء بين عاشوراء 1393 و 1425سلسلة مواضيع حية
 على الرابط التالي في منتديات يا حسين

http://www.yahosain.net/vb/showthread.php?t=31816

 

          قبل عام وفي مثل هذه الايام يممت شطر الحسين وحضرت عاشوراء في كربلاء ، وكنت شاهدا على تفجيرات الحقد الأموي وكتبت بعد عودتي خواطري ومشاهداتي في حلقات التي لم اكملها في ذاك الوقت الى أن حذفت منذ أشهر مع أكثر من نصف مليون مشاركة في هذا المنتدى عندما حصل خلل يعرفه المتابعون لمنتدانا المبارك هذا ، وقد رغبت بإعادة نشر ما كنت كتبت في هذه المناسبة خاصة بعد أن كثرت الاسئلة الموجهة الي عن هذا الموضوع، آملا في أن أكمل كتابة ونشر ما لم انشره في المرة الماضية .

 

 

عاشوراء كربلاء قبل ثلاثين سنة

 

قبل اكثر من ثلاثين سنة وتحديدا بين عامي 1973 م و1974 م  كانت مدينة كربلاء المقدسة  تعيش حالة ارهاب منظم تقوده السلطات الامنية الحاكمة في ذلك الوقت.

كانت ميليشليات  النظام البعثي في ذلك الوقت لم يكن قد مضى على استيلائها على مقدرات العراق اكثر من خمس سنوات ، وكان صدام حسين يحتل منصب نائب رئيس مجلس( قيادة الثورة؟) .

في ذلك العام كان الموعد مع بداية محاربة الشعائر الحسينية  في العراق ، وكان اختيارهم للتطبير ( ضرب الرؤوس بالسيف ) – والذي امتد فيما بعد ليشمل جميع المظاهر الحسينية في عاشوراء والتي سنتحدث عنها بالتفصيل- حيث انتشرت المجموعات الامنية التابعة للحكم البائد في كل الاحياء التي كان يتهيأ فيها مواكب المطبرين فتم إغلاقها وأعلن عن عملية المنع فأزيلت يافطات مواكب التطبير .

في ذلك اليوم وككل عام سبقه في عاشوراء كان والدي يصطحبني معه الى كربلاء وكنت اشاهد في عام مواكب العزاء التي تبدأ بالمطبرين مرورا بمن يضرب بالجنازير اضافة الى مواكب اللطم على الصدور وقبيل الظهر يكون الجميع على موعد مع الموكب الشهير ( موكب طويريج) .

أتذكر في ذلك اليوم وانا واقف داخل الحرم الحسيني واستذكر صور العام السابق التي نفتقدها في ذلك اليوم حيث غابت الاكفان البيضاء والسيوف ، وفجأة في تلك اللحظات حوالي العاشرة قبل الظهر يسود الهرج والمرج في الصحن الشريف عندما خرجت فجأة  مجموعات من عشاق الحسين عليه السلام وجردوا سيوفهم التي كانت مخبأة بين ثيابهم  ومنهم من ارتدى في تلك اللحظات كفنه وبدأ هتافات : حيدر حيدر .. يا حسين .. يا حسين ..

هربت عناصر الشرطة التي كانت متواجدة هناك وابتعدوا عن المقام ليقيموا حواجز تعمل على اعتقال من يستفردون به ..

جاء بعدها موكب الطويريج بركضته المشهورة ، ودخل معهم اولئك المطبرون وتفرقوا مع الموكب الضخم .

واثناء عودتنا في ذلك اليوم الى مدينة النجف الاشرف كانت حواجز أجهزة الامن التابعة للنظام المقبور تقيم حواجزها على الطريق وتفتش ركاب السيارات لتعتقل منهم من تجد على رأسه آثار ( التطبير ) ..

كانت تلك السنة هي آخر مرة أحضر فيها مراسم عاشوراء وانقطعت عنها طوال تلك السنين التي تبعتها حالات المنع الاخرى لجميع الشعائر الى أن وفقني الله هذا العام للمشاركة في هذه الذكرى لأكون شاهدا على ارهاب من نوع آخر .. سأحدثكم عنه في حلقات لاحقة من هذا الموضوع .

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

وذهبت الى عاشوراء كربلاء...بعد ثلاثين عاما

 

يوم السبت السابع من شهر محرم الحرام   1425 كان قرار توجهنا الى كربلاء ..

شوق وحنين يغلي في النفس طوال هذه السنين الطويلة ، التي تربعت فيها سلطة الاجرام على العراق الجريح الاسير.

          في السنوات العشر الاخيرة كان هناك عدد من الزوار يقصد العتبات المقدسة في العراق، وكنت استمع الى حكاياتهم وما يحصل معهم ، وفي ذلك ما يجعل النار تغلي في الصدور، وكنت أقول لهم .. لا لن أذهب الى العراق ما دام هذا النظام جاثما على صدر المقدسات .

          وكان يقول البعض لي : إذن لن تذهب .. وأجيبهم بلغة الواثق لا بد من أن نذهب الى الزيارة في يوم من الايام ، وهو لن يكون إلا بعد زوال حكم الطاغية .

          كنت أسمع عما يحصل في العراق عن مسلسل منع الشعائر الحسينية الذي بدأ في آخر عام حضرته في تلك الفترة منذ ثلاث عقود من السنين ، والذي كان قد ابتدأ بمنع التطبير ، وتلاه في العام التالي منع مواكب المشاة والمعروفة باللهجة العامية ( البيادة) ، وسمعت حكايات عن المواجهات التي جرت في منطقة خان النصف ، وهي المنطقة التي تقع في وسط الطريق بين مدينتي النجف الاشرف وكربلاء حيث كانت تنتصب الخيام على طول الطريق ، تقدم الطعام والشراب وتستضيف الاعداد الهائلة من الزوار التي كانت تتجه في اربعين الامام الحسين مشيا على الاقدام الى كربلاء ، لاستذكار عودة ركب الاسارى العائد في اربعين عام 61 للهجرة ( 20 صفر) من الشام الى كربلاء.

          ويستذكرون زيارة جابر بن عبد الله الانصاري في ذلك اليوم ولقاءه بوفد الاسارى والسبايا..

          فحتى هذه الشعيرة لم تكن ترق لجلاوزة النظام فكانت المواجهة والاعتقالات والاعدامات . وذنب الضحايا انهم خانوا الوطن !! وعرضوا الامن الوطني للخطر !!وذلك لذهابهم مشيا لزيارة كربلاء ..

          كنت استمع الى كل هذه الحكايات واستذكر ما علق بذاكرتي من  السنوات الخوالي عندما ذهب في احد الايام أبي ومعه أخي الاصغر بعد ان اشترى له راية يحملها والتحقوا بركب أحد كبار العلماء الذي صار فيما بعد مرجعا من مراجع الطائفة ، في السنة الاخيرة قبل منع هذه المسيرات ، وأتذكر ما حكاه والدي مما جرى في خان النصف عندما حضر عدد من المسؤولين الى تلك الخيمة وراح والدي يتحدث عن الحسين وعن عاشوراء والفداء والتضحية وكأنه في احدى قرى جنوب لبنان غير آبه بعناصر الاجهزة المنتشرة في ذلك الوقت ، فقال له ذاك العالم الجليل بعد ان خرج الحضور ، هل تظن نفسك في لبنان ؟ كفانا الله شر ما هو آت ..

          وكانت تلك بالفعل آخر سنة قبل حصول المواجهة .

          اتذكر ما حصل مع اخي منذ ثلاث او اربع سنوات في كربلاء - وهو  الذي كان طفلا في ذاك الزمن وحمل الراية- عندما كان مع مجموعة من الزوار اللبنانيين في كربلاء ، وكان يوم العاشر من المحرم الذي يمنع فيه كل شيء من المراسم التي يحييها الشيعة ، جاء أخي ومعه بعض الزوار حفاة نحو  الحرم المقدس  واضعين عصبة سوداء على رؤوسهم وما أن وصلوا الى الحرم حتى اثار مظهرهم هذا الشجى في اعين الحاضرين فانهملت العيون ، وعلت الاصوات قائلة يا حسين ..

وما هي الا لحظات حتى حظرت عناصر الجيش والامن حاملة الاسلحة والهراوات الى الحرم المقدس وكأنهم على موعد مع مواجهة مسلحة .. وبدأوا بإسكات الناس بالهراوات ، وكانوا يريدون اعتقال هذه المجموعة المدججة باللون الاسود ، وما انقذهم هو انهم لم يكونوا عراقيين ، بل كانوا لبنانيين ، ويبدوا ان اجهزة النظام لم تكن ترغب في سد هذا الباب الذي كانوا يستفيدون منه من خلال الزوار الوافدين ، فاكتفوا بطردهم من الحرم وأمرهم بالخروج فورا من كربلاء بدل اعتقالهم ..

          كانت هذه الحكايات التي اسمعها عما يجري في ارض العراق تجعلني اصر على موقفي من انني لن اذهب الى العراق مجددا حتى يزول الطاغية .

          وفي الاسبوع الماضي قال لي بعض الاصدقاء ها قد زال الطاغية ، الا ترغب في الذهاب الى كربلاء؟

          قلت لهم نعم ، لقد آن الاوان كي اذهب وسأحضر هناك اول عاشوراء تعود فيها للناس حريتهم بعد ثلاثة عقود من القمع والتنكيل .

لقد تخلص شعب العراق من ذاك الكابوس وسأذهب لحضور عاشوارء في كربلاء بعد انقطاع طال كثيرا في عمر الافراد ، ولكنه لا يذكر بالنسبة لعمر الامة . وذهبت الى كربلاء..  

وللحديث تتمة.

 

في الطريق الى كربلاء... بكيت ثلاث مرات

 

قررت الذهاب ولكن كيف لي ان احقق أمنيتي ، اولادي يرغبون بالذهاب معي، نويت ان اصطحب اثنين منهما ، احدهما كان قد ذهب منذ ما يقرب من ثلاث سنوات ، أما الاخر فلم يكن قد ذهب الى العراق قبلا .

وجائني احد الاصدقاء العراقيين ليدعوني الى الذهاب معه ، قلت في نفسي ، ومن أدراه اني افكر بالذهاب واني قد قررت ذلك .. لا شك ان الله قد سخره لنا ليزيل من امامنا بعض عوامل التردد ، فلقد مضى على سقوط النظام اكثر من عشرة اشهر ولم اكن ارغب في الذهاب بطرق غير قانونية ، بل ارغب في الذهاب بصورة شرعية ورسمية ، وليس عن طريق التهريب او التزوير .

قلت له كيف نذهب ولم ننجز شيئا من اجراءات السفر ولم يبق الا ايام قليلة ، وأنا لا ارغب بالذهاب عبر طرق التهريب او غيرها من طرق غير قانونية .

قال لا عليك.. أنا سأتكفل بجميع الامور القانونية والرسمية وكن على استعداد للسفر يوم الجمعة . فوطنت النفس على ذلك ، وجاء يوم الجمعة ولم يحصل شيء ومضى نصف النهار حتى المساء فدب اليأس ولكن كان هناك شيء خفي في داخلي يقول لي انك ستذهب في هذه الايام وستحضر عاشوراء في كربلاء..

في مساء الجمعة تحادثت مع صديقي الذي قال ان الامور لم تسر حسبما كان متوقعا ، وربما نتمكن من الذهاب يوم الاثنين القادم أي ليلة العاشر من محرم.

أجبته ان هذا غير ممكن ، فإما ان نذهب في موعد أقصاه يوم الاحد او لا نذهب ، وأشرقت شمس يوم السبت ولم يبق امامي سوى ذاك الشعور الداخلي بأنني سأزور هذا العام ولن أغيب عن كربلاء ، وانتصف النهار وشاهدني من كان يحسب انني سافرت واستفسروا عن ذلك ، فقلت لهم انني لا ازال انتظر دعوة الحسين عليه السلام للزيارة .

عصر السبت يرن التلفون ليطلب مني صديق ان نجهزأنفسنا للسير بعد صلاة المغرب ، وهكذا كان .. فاتجهنا نجد السير طوال الليل ونقطع مئات الكيلو مترات ، ونتذكر تلك القوافل التي كانت متجهة الى كربلاء في عام 60 للهجرة .

  ما أن وصلنا الى الحدود حتى سالت الدموع وانا انظر الى تلك الحشود المتجهة الى كربلاء.

كم سافرت قبلا الى بلدان العالم .. وكم تنقلت .. وقد عبرت نقاط حدود ولكن لم أر قبلا جموعا متدفقة كما رأيت .. ترتدي السواد .. شعارها جميعا .. يا حسين ..

أي حشد هو هذا الذي يتجه الى كربلاء .. لا يقارن على الاطلاق بتلك الحشود التي تسعى بين الصفا والمروة ، ليس في العدد مقارنة ، فما أراه اكثر بكثير من هناك .

ليس لهم شبيه من ناحية الحشد الا ما شاهدته يوم النفر من مزدلفة الى منى حيث تزدحم جموع الحجيج في الطريق المؤدي الى الجمرات ، هو المشهد الوحيد الذي يقرب مما شاهدته عند نقطة الحدود لزائري الحسين عليه السلام في عاشوراء .

دمعت عيني عند تلك الخواطر وانا اتذكر ان الحسين عليه السلام كان يسير باتجاه معاكس لسير الحجيج في العام 60 للهجرة ، إذ كانت وجهة حجه في ذاك العام الى كربلاء .. وهنا بكيت أول مرة ..

وللحديث تتمة

 

تاسوعاء.. المرة الثانية

 

 ظهر يوم الاثنين التاسع من شهر محرم الحرام اتجهت بنا السيارة من الكاظمية بعد أن أمضينا الليلة الفائتة في زيارة  باب الحوائج موسى بن جعفر الكاظم الذي امضى سنين من عمره في سجن هارون (غير) الرشيد ، وقاسى أنواع العذاب  حتى نقل جسده الشريف بعد وفاته مسموما الى جسر بغداد ، ووقف المنادي ينادي : هذا امام الرافضة ..هذا موسى  بن جعفر .. وكذلك في زيارة حفيده الجواد ..ذاك الذي أخرس ألسن الادعياء على صغر سنه..

ما أشبه البارحة بالامس !! كانت تهمة إمامنا أنه إمام الرافضة .. وكان هذا كافيا لكي يوضع الحديد في رجليه ويزج في سجن لا يعلم ليله من نهاره على يد من يتبوأون مقعد رسول الله ، في فترة يعتبرها مزورا التاريخ فترة ذهبية في تاريخ تلك الامة المنكوبة بولاة الجور الذين تسلطوا عليها .

قصور الحريم والسمر في بغداد التي يأتيها الخراج ، يقبع بالقرب منها ابن رسول الله في سجنه وتهمته أنه إمام الرافضة .. وتستباح دمائنا اليوم لاننا رافضة .

كانت هذه الخواطر تدور في الرأس ونحن نودع الامامين الكاظم والجوار نحو كربلاء التي كان فيها الركب الحسيني في هذه الليلة يستعد فيها للخلود الابدي صبيحة الغد ، وعلى الطريق نحو كربلاء ، تستوقفنا خيم الضيافة ، لشرب الشاي او الماء او الطعام ، وانظر في هؤلاء الذين يجدون السير مشيا على الاقدام فلم أستطع ان أحبس دمعتي عندما شاهدت عجوزا يسير نحو كربلاء مستعينا بعصا في يده ، ومجموعة من النساء حفاة ، وشبان تورمت اقدامهم وهم يحملون الاعلام السوداء والخضراء والحمراء ولسان حالهم جميعا .. لبيك يا حسين ..

لئن قطعوا الارجل منا واليدين *** نأتيك زحفا سيدي يا حسين

وهنا بكيت مرة ثانية ..

وللحديث تتمة .

 

على مشارف كربلاء.. المرة الثالثة

يفصلنا عن مدينة كربلاء ما يزيد على 20 كلم ، ولكن عندما تنظر حولك تشعر انك تسير في احدى ضواحي المدينة بل في وسطها من كثرة السائرين باتجاه واحد .

 كثيرة هي حواجز التفتيش ، وأكثر منها جحافل المتطوعين ، منها ما يفتش ومنها ما يرشد القادمين ، كل واحد يشعر نفسه انه معني بالمساهمة في تنظيم الامور ويؤدي دوره حسب استطاعته، يستوقفنا حاجز تفتيش ، وبكل أدب واحترام يطلب منا ان ننزل من السيارة كي يفتشها، يستعمل كل عبارات الاعتذار، ويقول لنا حتى سيارات الشرطة علينا أن نفتشها لأن لدينا معلومات عن أعمال تخريبية قد تحصل، نشجعه على عمله هذا ، يلتفت الى نقطة قريبة على الخط الرئيسي ويشير الى باص متوقف بجانب تلك النقطة ، ويحدثنا متأسفا، بالامس حصل هنا حادث حيث اجتاز ذاك الباص العوائق الاسمنتية على الطريق واجتاح بعض الجنود مما حداهم الى اطلاق النار عليه، كان ينقلا زوارا ، لا ندر هل كان سكرانا!! ام ماذا ؟ سقط عدد من القتلى والجرحى في الحادث.

لقد سلكنا هذا الطريق الفرعي بعد ان انحرفنا عن الخط الرئيسي بهدف أن نصل بالسيارة الى اقرب نقطة ممكنة من الحرم لأننا كنا قد سمعنا ان الطريق الرئيسي نحو كربلاء قد قطع امام السيارات مسافة طويلة.

 سلك بنا السائق طريق منطقة الحسينية ، وكلما اقتربنا من المدينة  اكثر كلما كانت الخطوط الرئيسية مقطوعة امام السيارات ، ارشدنا بعض المتطوعين الى طرقات فرعية عبر بساتين النخيل المنتشرة ، رحت أتأمل حالة البؤس التي يعيشها العديد من ساكني بساتين النخيل، بعض النسوة على حافة بعض مستنقعات الماء الآسن تغسل الاواني.

أي بؤس يعيشه هؤلاء في بلاد الرافدين؟ وفي نفس الوقت تشعر انهم يعيشون العنفوان الكربلائي في نفوسهم، ها هي الاعلام السوداء التي كانت ممنوعة عليهم في ظل العهد البائد ترتفع على اسطح منازلهم الترابية وعلى الجدران ، وبعض التجمعات التي تطبخ الطعام لتوزعه على الزوار ، ومجموعات من المتوجهين سيرا على الاقدام من بين هذه المزارع تتجه حاملة الاعلام نحو كربلاء..

أي سر يحمله الحسين ليجذب كل هذه القلوب !!

سار بنا السائق في اتجاه جانبي وطرقات متعرجة، لقد تجاوزنا وسط كربلاء ولم نستطع الدخول اليها وصرنا في الجهة الاخرى منها بحثا عن مدخل نصل به الى كربلاء، وها نحن قد وصلنا الى قرب مفترق  منطقة الطويريج على طريق النجف – كربلاء .. ومن لا يعرف موكب عزاء الطويريج .. لا بد من أن اتحدث عنه في يوم العاشر .

وصلنا الى الشارع الرئيسي..

الهي ماذا أرى ؟  هل أنا في يقظة أم في حلم ؟ هل ما أشاهده وهم أم حقيقة ؟ لا يزال يفصلنا عن كربلاء عدة كيلو مترات  وقوافل الحجيج الى قبر الحسين تزحف صارخة لبيك يا حسين .. جموع لا تعد و لا تحصى ، حشود من كل الاعمار تتتجه نحو كربلاء ، رايات خضراء وسوداء ، وحمراء وبيضاء ، مجموعات ومواكب وافراد ترتدي السواد يحركها حب الحسين .

لم اتمالك نفسي فبكيت مرة ثالثة...

وللحديث تتمة..

                               

الدخول الى كربلاء... وأتوا البيوت من أبوابها ..

 

نحن الان على مدخل كربلاء.. من جهة النجف الاشرف.. سرعان ما تبدل هدفنا.. كنا قد طلبنا من السائق بأن يصل بنا الى أقرب نقطة ممكنة داخل المدينة خاصة وأن معنا بعض حقائبنا ، ولذا فقد سلك بنا هذه الطريق ، ولكننا الان وبعد أن وصلنا الى هذا المكان عصر التاسع من عاشوراء وشاهدنا هذه الجموع الزاحفة بألوانها وأشكالها وطبقاتها المختلفة شعرت بالخجل لأننا لا نزال بالسيارة التي اتجه بها سائقها نحو اليسار ، أي الى الخط المتجه من كربلاء الى النجف، فسار بعكس اتجاه السيارات لأن اتجاه العودة فارغ من السيارات ، والسبب الاكثر من ذلك هو ان الاتجاه نحو كربلاء ليس فيه مكان لسلوك السيارات ، فعشرات الا لوف ، بل مئات الالوف تتجه في مسيرات لا أعتقد أن كربلاء قد شهدت لها مثيلا في التاريخ ، اللهم إلا في ذكرى الاربعين الاولى التي تلت سقوط النظام البائد في العام الماضي، والتي تقترب ذكراها الثانية، حيث اتجهت الملايين سيرا علىالاقدام نحو كربلاء، ولكن عدد الحشود لا شك انه يفوق تلك الملايين التي زحفت في العام الماضي وأثارت إعجاب العالم أجمع حتى جعلت الرئيس الاميركي يومها يتسمر على شاشة التلفاز ليتابع مراسم ذكرى اربعينية الامام الحسين في كربلا.
المهم أننا شعرنا بالخجل إذ أن سيارتنا كانت من السيارات القليلة التي تتجه بركابها ، فقلت في نفسي ... واخجلتاه..وأنا أنظر الى أطفال وكهول .
توقف السائق وكأنه أدرك ما أفكر فيه قائلا لن أستطيع التقدم أكثر من ذلك ، نعم فالسير مشيا صار أسرع من السير بالسيارة ..
وطأت أقدامنا أرض كربلاء ، نحن الان في عصر التاسع من محرم وتذكرت التاسع من محرم.
صرنا أفرادا من جموع أتت من كل حدب وصوب، الكثيرون من المتطوعين على جانبي الطريق نصبوا الخيم ويوزعون الماء والشاي وحتى المرطبات والطعام على زوار الحسين ، وعدت الى كربلاء الحسين ..
كيف كانت حالهم في مثل هذا اليوم ؟ كيف كانت حال اطفالهم ؟ هل كان لديهم ماء ؟ هل كان لديهم طعام ؟
ساعد الله قلبك يا ابا عبد الله .. سالت الدمعة غزيرة .. كما هي الحال وانا أكتب ما جرى .. هذه جموع المحبين تزحف من كل مكان لتمضي ليلة العاشر من المحرم بجوار حرمك .. لتواسي العيال والنساء ، لتكون مع الصحب الذين قلت فيهم: لا اعلم أصحابا أوفى ولا خيرا من أصحابي ، ولم تقل لم أر ...
حالة من الخشوع .. ونحن نلامس هذه التربة .. أليست هذه التربة هي التي أبكت رسول الله ؟ وأبكت الزهراء ؟
نحن على ابواب كربلاء.. إذن نحن على مقربة من أرض جبلت بدم الحسين .. حتى صارت شفاء .. نحن على مقربة من ارض ضمت جسد الطفل الرضيع الذي مات مذبوحا وهو بيد والده ليغسل بدمه بدل ان يشرب من حليب امه، ارتوى بدم النحر بدل أن يرتوي من الماء . نحن بالقرب من هذه البقعة التي لا تزال فصول الاحداث فيها تتراءى للعيان، هنا في هذه البقعة انكشفت الكثير من الحقائق ، وكانت مختبرا لمعادن الرجال.
فهنا برز دور الحر الرياحي ، وحبيب بن مظاهر ، وزهير بن اليقين ، وجون وغيرهم ، وهنا تعرى امثال عمر بن سعد ، وشبث بن ربعي ، وحرملة بن كاهل.
على هذه البقعة و قبل 1364 سنة كانت بداية تاريخ، هو تاريخ كربلاء . وبداية زمن هو زمن عاشوراء ، وانطلقت منها صرخة لا يزال صداها يتردد في الاسماع، هل من ناصر ينصرنا ؟؟
وتجيبه اصوات عبر كل هذه السنين ، من قلوب وحناجر .. لبيك يا حسين ..
كل يعبر عن حبه بشكل ولون واسلوب ، وما هذه الحشود الغفيرة الزاحفة نحو كربلاء إلا لون من ألوان التعبير.
مشهد كان له أبلغ الاثر ولا أنساه، ونحن نسير مع المشاة . رجل شاب يسير وقد اتشح بالسواد يضع على رأسه عصابة سوداء كتب عليها : لبيك يا حسين .. ويحمل طفلا له على كتفه قد اتشح بالسواد وعلى رأسه عصابة مثل عصابة والده،
وزوجته خلفه مثله وتحمل طفلا آخر ، وكل منهما يجر طفلا ..
أب وام وأربع أطفال اثنان لا يستطيعان المشي بعد فحملهما والداهما واثنان سارا وكل من الابوين يجر ولدا ، والجميع يسير مشيا نحو كربلاء وشعارهم : السلام عليك يا أبا عبد الله .. لبيك يا حسين..
وسرنا مع هذه الجموع، يستوقفنا عدد من الشباب ، نظن أنها اجراءات تفتيش ، ولكن دعوتهم كانت لنتاول شيئا مما يقدموه للزوار .. وبالطبع لن تستطيع تلبية الجميع.
قلت في نفسي:هل يوجد مكان في العالم ، او جماعة ، او مناسبة يقف فيها شخص في طريقك لا ليطلب منك ، ولا ليأخذ منك بل ليضيفك ، وبإلحاح واصرار دون أن يعرفك او دون ان يراك قبلا ، يدعوك الى الطعام او الى الشراب ، ويفرح إذا ما لبيت دعوته ، ويحزن إذا ما اعتذرت منه!!
في كل العالم نشاهد حشود المصطفين او المتدافعين للحصول على مساعدة ، او رغيف او قصعة طعام، أما أن يكون المشهد معكوسا فهذا ليس له وجود إلا في ذكرى الحسين ..
اقتربنا من القباب الذهبية ، ويشتد الزحام من اطراف المدينة ، لم يعد هناك من مجال ليبتعد أحدنا عن الاخر ، حينها لن يكون من السهولة العثور على بعضنا، وصلنا الى مفترق الطريق ، مفترق الى الحسين ومفترق الى العباس ..
فقلت لصحبي : ادخلوا البيوت من ابوابها ..
لندخل الى الحسين من باب العباس . لنتوجه أولا الى قمر بني هاشم .
وللحديث تتمة

هذه كربلاء .. فاخلع النعل عند وادي طواها

السلام عليك يا قمر بني هاشم ..

السلام على ابي الفضل العباس ..

السلام على ساقي عطاشى كربلا..

السلام على حامل اللواء ..

السلام على العباس ..

يممنا شطر العباس .. ونحن نردد لحن السلام .. وتتقاطر الدموع  عندما تقرأ يافطة كبيرة جدا كتبت بلون قطرات الدم  وفيها  عبارة ( يا حسين ) وكأنك تسمع فيها صوت العباس بعد أن هوى صريعا في تلك البقعة وهو ينادي أخاه باسمه وللمرة الاولى والاخيرة في حياته ( أخي .. يا حسين .. عليك مني السلام ).

نعبر الشارع  العريض حيث يشتد الزحام وقد صار الشارع كله ابوابا لعبور الزوار من خلال نقاط التفتيش المكتظة .. ونحن نتجه ناحية العباس..

الشمس تميل الى الغروب ونحن على ابواب ابي الفضل العباس ، لن نذهب الى فندق او منزل لنبيت فيه ، بل لا بد من أن نمضي الليل مع العباس وأخيه وصحبه ، أليست هذه هي ليلة الوداع ؟ أليست هي الليلة الاخيرة التي امضاها الصحب بين قائم وقاعد وجالس وساجد ، وبين شاحذ لسيفه ؟

 وصلنا بعد جهد جهيد الى جانب الحرم ، ولكننا ماذا نفعل بالاغراض التي معنا؟

شاهدنا مكانا لوضع الامانات ولكنه كان ممتلئا فلا مكان لديهم لاستقبال المزيد.

لقد صرنا بجانب الحرم ولن نضيع الوقت بالذهاب بعيدا لوضع الاغراض،

وفي هذه الاثناء نلحظ عند احد ابواب الخروج من الحرم لناحية كف العباس بعض الاشخاص جلوسا وأمامهم أكياس من السكر والشاي ، ويبدوا انها مخصصة للمواكب التي تحمل اسم ابا الفضل العباس .

كانت فرصة لنا كي نأخذ زاوية بجانبهم ونفرش على الارض بجانب السور الحديدي وعمود الكهرباء بساطا كان معنا ووضعنا حقائبنا في الجهة الاخرى .

ما أسعدنا بهذا المكان الذي عثرنا عليه عند باب باب الحوائج العباس بن امير المؤمنين .

هذا هو المكان الذي سنتخذه نقطة لنا ، لن نجد اقرب منه ولا افضل ، وكل شخص منا صار باستطاعته ان يذهب ويعود الى هذا المكان.

  أنا سأذهب لأصلي المغرب والعشاء ، في ليلة عاشوراء عند ضريح العباس ..

وللحديث تتمة

 


  • المصدر : http://www.kitabati.net/subject.php?id=28
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2005 / 12 / 19
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28