• الموقع : كتاباتي- صفحة الشيخ مصطفى مصري العاملي .
        • القسم الرئيسي : كتاباتي .
              • القسم الفرعي : الى كربلاء .
                    • الموضوع : رحلتي الى أعظم حجّ في التاريخ .. الى كربلاء- الحلقة الرابعة (من النجف الى كربلاء) .

رحلتي الى أعظم حجّ في التاريخ .. الى كربلاء- الحلقة الرابعة (من النجف الى كربلاء)

الحلقة الرابعة: من النجف الى كربلاء
ليلة العاشر من شهر ذي الحجة في كل عام تتجه جموع الحجيج من جبل عرفات لتمضي ليلة العيد في المشعر الحرام قبل ان تتجه صباحا الى منى صبيحة عيد الاضحى المبارك، في يوم هو الاعظم من أيام مناسك الحج.
هذا الحج الذي أوجبه الله على عباده المسلمين منبهاً الى أن تاركه كافر بالله العظيم..{ وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ }..

وفي ذاك الوقت وعند غروب الشمس من يوم عرفة، يوم التاسع من ذي الحجة تزدحم السيارات والباصات على عشرات الطرق المؤدية الى المشعر الحرام لتنقل تلك الاعداد من الحجاج التي لا يتجاوز عددها في احسن الحالات ثلاثة ملايين، هم مجموع عدد الحجيج في كل عام ، نصفهم من أرض الحجاز ونصفهم الاخر من جميع بلاد المسلمين ، من بلاد المليار ومائتي مليون مسلم في العالم..
بعض اولئك الحجيج يقطعون مسافة الكيلو مترات الثمانية مشياً بين الباصات الى المزدلفة، قبل أن يغادر الجميع فجر العيد لرمي الجمرات فيقطعون مسافة بضعة كيلو مترات اخرى..
هذا ما يحصل كل عام خلال ليلة واحدة تشكل حالة فريدة من نوعها لذاك الزحف البشري الذي جاء الى تلك البقعة ليردد تلبية أبينا ابراهيم..
لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك..
يجتمع هذا الحشد في كل عام تلبية لقوله تعالى {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}.
إن كل حاج يتذكر تلك الاصوات المنبعثة من أبواق السيارات، وكل منها يحاول سباق الاخر..
كثير من الروحانية يفتقدها الحجيج نتيجة ذاك الاضطراب الحاصل من تلك الاصوات، وزد على ذلك ما يعانيه الحجيج المشاة او الجالسون على أسطح الباصات من الغازات السوداء المنبعثة من تلك السيارات، وعندما يصلون الى مزدلفة فإن عليهم التجمع صفوفا طويلة كي يتمكن أحدهم من الوضوء..
هذا ما يحصل كل عام أثناء حج بيت الله الحرام.. ملايين ثلاثة تضيق بهم الارض بما رحبت حتى أن السلطات الرسمية تقيد عدد تأشيرات الحج من الخارج، وتمنع المتواجدين في الداخل من المجيئ الى الحج من دون إذن رسمي كي تقلل من تلك الحشود بما يتلاءم مع ما يحتاجون اليه من خدمات، وهذا ما يعرفه كل حاج..
ولكن كيف تبدوا كربلاء قبل هذا الحج الاعظم في التاريخ..؟
ما أن غادرت مطار النجف الاشرف الى الشرق من مقام أمير المؤمنين عليه السلام حتى التفت الى صاحب القبة البيضاء في النجف متمثلا بقول الشاعر:
يا صاحب القُبة العَلياء وَالشَرَف الَّذي *** عَلى شُرفات العز مَسطور
عذرا سيدي فنحن قد:
طرنا إلى النجف الأعلى بأجنحة *** رفيفها يصدع الافلاك بالزجل
وها نحن نتجه شمالا سيدي.. وتغرورق أعيننا بالدموع..
في الطريق الى كربلاء ومن مستديرة ثورة العشرين في النجف الاشرف، تنتصب الخيم على جانب الطريق، لتقدم شيئا من الخدمات لزوار ابي عبد الله الحسين.
ينحرف السائق نحو اليسار على طريق القادم من كربلاء، أظن للوهلة الاولى أن حادثا على الطريق استدعى تحويل السير على خط واحد ذهابا وايابا، ولكن سرعان ما يظهر لي أمر لم أكن أتوقعه، ولم يكن يخطر ببال..
ما شاهدته من الخيم المنصوبة على الجانب الايمن من الطريق ما هو إلا صف متصل من النجف الى كربلاء..
وما حسبته قطعا جزئيا للطريق بسبب حادث ما هو إلا نتيجة حدث لا يتصوره أحد..
إن خط الذهاب من النجف الى كربلاء قد تحول الى خط لسير المشاة وليس لسير السيارات..
على السيارات ان تسير الان على خط الاياب من كربلاء باتجاهين..
نعم خط متصل من الخيم وخط متصل من المشاة، الى كربلاء..
يا الهي.. ماذا أرى.. لا يزال يفصلنا عن موعد زيارة الاربعين خمسة أيام، كل هذه الجموع تتجه نحو كربلاء.. مشيا على الاقدام..
كبارا.. صغارا.. نساء.. رجالا.. أطفالا.. من كل الاعمار..
عائلات بأكملها تسير الى الحسين.. لبيك يا حسين..
هل هو الشوق المتقد في الفؤاد؟ هل هو الحنين الى ابن سيد العباد؟
هل هي الرغبة في الثواب الموعود؟ ألم يقل الامام الصادق عليه السلام:
مَنْ خَرَجَ مِنْ مَنْزِلِهِ يُرِيدُ زِيَارَةَ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ إِنْ كَانَ مَاشِياً كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ حَسَنَةً وَ حَطَّ بِهَا عَنْهُ سَيِّئَةً حَتَّى إِذَا صَارَ بَالْحَائِرِ كَتَبَهُ اللَّهُ مِنَ الْمُفْلِحِينَ وَ إِذَا قَضَى مَنَاسِكَهُ كَتَبَهُ اللَّهُ مِنَ الْفَائِزِينَ حَتَّى إِذَا أَرَادَ الِانْصِرَافَ أَتَاهُ مَلَكٌ فَقَالَ لَهُ أَنَا رَسُولُ اللَّهِ رَبُّكَ يُقْرِئُكَ السَّلَامَ وَ يَقُولُ لَكَ اسْتَأْنِفِ الْعَمَلَ فَقَدْ غُفِرَ لَكَ مَا مَضَى.
أهو الطمع بالحسنات؟ أم الرغبة بمحو السيئات؟ أم الأمل في أن يكونوا من المفلحين؟ أم الشوق ليكونوا من الفائزين؟
أمن أجل هذا تتراص الصفوف سيرا على الاقدام كل تلك الليالي وعلى طول كل تلك المسافة؟
اكثر من ثمانين كيلوا مترا كأنها جموع الحجيج من مزدلفة الى منى؟
كلها تتجه نحو كربلاء لتقول : السلام عليك يا أبا عبد الله.. السلام عليك يا حسين.. السلام عليك يا مظلوم.. السلام عليك يا شهيد..
لعن الله من قتلك.. لعن الله من ظلمك.. لعن الله من حز رأسك.. وطاف به في البلدان.. لعن الله من سبى نساءك.. لعن الله من أيتم أطفالك..
هو الشوق الجارف.. هو الحنين الصادق.. هو ما ليس له مثيل في حياة البشر..
وما أن نصل الى ما يعرف بخان النصف، في وسط الطريق، قبيل منتصف الليل حتى تتباطأ حركة السيارة، بل وتتوقف فلم يعد بالامكان ان تسير كرغبة السائق..
من عادة المشاة أن يبيتوا في تلك الخيم المنصوبة طوال الطريق في اول الليل، ليتابعوا مسيرتهم منذ الصباح، ومع ذلك فإن حركة المشاة لا تسمح للسيارات بالسير، فتطول الطريق وتطول المسافة..
يحاول السائق الذي ينقلني من النجف الى كربلاء تجاوز الكثير من العوائق والحواجز، فيتجاوز تلك الصفوف الطويلة المتوقفة..
ويبرز بطاقته أمام الحواجز.. إننا ضيوف الروضة الحسينية ..
بعد أن نصل الى مدخل كربلاء ، تبدو المفاجأة أكثر.. ان من وصل مشياً من النجف والناصرية والديوانية ، وحتى البصرة بدأ بالعودة بعد أدى غرضه ، علما أن موعد الزيارة لم يحن بعد..
على بعد بضعة كيلو مترات من كربلاء لم يعد هناك من مجال لعبور السيارات، فينزل الركاب في هذه الساحة ليتابعون مشياً، ولكن يسمح لنا استثنائيا بالعبور بين المشاة..
يا الهي.. أي سر يحمله الحسين .. يصنعه الحسين..
استحي من كل اولئك وانا اعبر بالسيارة ..انظر الى العجزة، الى من يسير على عصا.. الى اطفال يسيرون بجوار امهاتهم...
اخجل من نفسي.. فهؤلاء أتوا مشيا.. أما أنا فتفتح لي الحواجز لأسير بينهم بالسيارة..
أذوب خجلا.. ولكن ماذا عساي ان أفعل..
إنني على وشك تحقيق حلم كبير.. ها انذا على وشك الوصول الى كربلاء بعد أن قطعت آلاف الكيلو مترات هذا اليوم.. سأصل الى الحسين في هذا المساء..
تسيل دموعي على خدي، وتبلل لحيتي .. ولا استطيع حبس دمعتي.. فها انذا قد وصلت الى كربلا..
هـذه كـربلا فـقف فـي ثراها *** واخـلع النعل عند وادي طواها
فـهي وادي الـقدس التي ودَّت *** الـشهب الدراري بأنها حصباها

تستحضرني هذه الابيات التي كان والدي يشجعني واخي على حفظها صغيرا، كنت ارددها ونحن نأتي للزيارة ولكن لها الان معنى آخر..

نعم وكما قال السيد الامين:
فـاخرت كـعبة الحجيج فكانت *** أشـرف الـكعبتين قدرا وجاها
ها أنذا أحج الى الحسين......
وللحديث تتمة


  • المصدر : http://www.kitabati.net/subject.php?id=83
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2009 / 03 / 19
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19