( الصورة الاخيرة لحظات قبل الرحيل)
رحمك الله يا شيخ موسى
أحييت ذاكرة الايام
في رحلتنا الأولى معا عبر الوديان منذ ست وثلاثين سنة
لم يكن يخطر في فكرنا أن العمر سيمتد بنا سنين
وفي صلاتنا الأخيرة معا يوم العيد قبل اثني عشر يوما
لم يكن يخطر بالبال انه اللقاء الأخير
***
عصر اليوم ( الاثنين ) وفي الخامسة عصرا كنت على موعد منذ يومين لألبي دعوة أخ عزيز لمناسبة اجتماعية في كربلاء..
اتصل بي بعيد الظهر ليؤكد على حضوري.. فاعتذرت منه قائلا..
في نفس هذه الساعة سيكون تشييع في بلدتنا لأخ عزيز قضى بالأمس غرقا..
اعتذر عن الحضور لاني فكري ومشاعري اتجهت بي الى هناك ..
اقلب صفحات التاريخ وأعيش مع الذكريات..
التي سأدون بعض عناوينها في هذه الوريقات..
كنت قد عدت للتو من حرم الامام الحسين عليه السلام،
خصصت الزيارة لليوم الثاني واهديت ثوابها الى روح المرحوم الشيخ موسى عاصي.
زيارة بالأمس عندما بلغني نبأ رحيل مؤلم عشت بعض فصوله يوما ما..
وزيارة اليوم قبل موعد التشييع والدفن ..
وصلاة هدية بعد أن انهيت صلاتي المغرب والعشاء، في هذا المساء..
من أين ابدأ والى اين ساصل؟
استحضرت الاية الكريمة
وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ
صدق الله العلي العظيم
***
عندما التحقت في العام الدراسي 77-1978 للعمل مع الشهيد الدكتور مصطفى شمران أمينا للسر في مؤسسة جبل عامل المهنية بناء لرغبته التي اظهرها بعد ان اطلع على ذاك الجانب من دراستي وعلم انني رجعت من الجبهة في بنت جبيل قاصدا بيروت لاستلام شهادة التخرج، وهو الذي كان يشغل مسؤولية إدارة المؤسسة، التي كانت تعنى بأكثر من اربعماية تلميذ داخلي يعيشون ويتعلمون في تلك المدرسة.
ومن خلال ذاك العنوان وذاك المكان كان يتحمل المسؤولية التنظيمية المركزية لحركة المحرومين وجناحها العسكري، أفواج المقاومة اللبنانية ( امل )
عندما بدأت بالاطلاع على جداول أسماء الطلاب وشرعت في العمل لتنسيقها لفت نظري وجود اسم طالب من بلدتي انصار..
انه موسى عاصي، نجل الشيخ محمد عبد النبي عاصي..
وكانت البداية..
***
في آذار من عام 1978 م بدأ الاجتياح الإسرائيلي الأول للجنوب فيما اطلقت عليه تسمية عملية الليطاني.
بعد أيام من القصف العنيف وحالة الحرب كان معظم الطلاب لا يزالون في المؤسسة قبل ان يشرعوا بمغادرتها مع وصول القوات الإسرائيلية الى بلدتي البازورية والعباسية بما يجعل مدينة صور بين فكي كماشة.
قلة هي التي كانت لا تزال في المؤسسة وصارت تقوم بأعمال الحراسة في تلك الأجواء المضطربة وخاصة بعد أن تنكَّر الدكتور شمران بصفة صحفي وذهب مع وفد جريدة لوموند الفرنسية الذي اتجه الى بلدة العباسية لاجراء تحقيق ميداني مع القوات الإسرائيلية، ولمعرفة أهدافهم المستقبلية..
بعد ساعة عصيبة انتظرت فيها برفقة الشهيد حسين عواد، عودة الدكتور شمران والوفد الصحفي عند مفترق العباسية بعد ان ترك معي كل أوراقه الخاصة ولم يحمل معه سوى بطاقة صحافي اجنبية وبعد عودتنا الى المؤسسة كان قرار الانتقال الى بلدة الخرايب مع الشهيد الدكتور مصطفى شمران.
وصلنا الى الخرايب ولم يكن يتجاوز عددنا خمس وعشرون شابا، وكان معنا ابن بلدتي الطالب موسى عاصي..
***
عندما تحادثت مع الدكتور مصطفى شمران عن كيفية تأمين الغذاء اللازم بعد ان كان معظم اهل البلدة قد غادروها، وبعد ان اتخذنا من المستوصف الفارغ مكان إقامة لنا كانت فكرة ذهابي الى انصار مشيا مع مجموعة لنحضر من هناك ما نستطيع حمله من خبز ومعلبات تكفينا لبضعة أيام.
كانت معنا بعض الحقائب التي تحتوي على ملفات خاصة وارشيف مهم لا بد من الحفاظ عليه مما اصطحبناه معنا بعد ان غادرنا المؤسسة.
اربع شباب بزيهم العسكري وسلاحهم تطوعوا بأن يذهبوا معي لأداء هذه المهمة، وقد تشاركوا في حمل الحقائب.
شاب مدني واحد التحق معنا ليساعدنا في حمل تلك الحقائب الذي وليرافقنا في تلك الرحلة التي كنا نسير فيها مع الموت ، وبدل ان نصل الى انصار في ساعة كما كنا نتوقع استمرت رحلتنا تلك ثمان ساعات فوصل معنا الى بيتنا قبل ان يودعنا ويذهب الى منزلهم.. انه الطالب موسى عاصي..
****
بعد سنة او اكثر بقليل وبعد سفري وعودتي الى لبنان وبعد ان اخفي السيد موسى الصدر وغادر الدكتور شمران لبنان الى ايران بعد انتصار الثورة الإسلامية في ايران، التقيت بموسى عاصي في بيروت وسألته عن احواله، فقد كانت له مودة خاصة في نفسي، فأخبرني بأنه التحق بحوزة دينية هناك بتوجيه من والده وهي مدرسة الامام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف..
لم اكن يومها على علم بوجود حوزة دينية في منطقة برج البراجنة، فسألته عمن أسسها ويديرها فأجابني انه السيد حسن الشيرازي.
لم يطل الامر كثيرا فقد اغتيل السيد حسن الشيرازي في بيروت وانتقل موسى الى الشام وبعدها الى قم.
و مضت سنوات طويلة دون ان نلتقي و عاد من قم الشيخ موسى عاصي وليستقر في بلدتنا انصار، وقد دعاه الوالد لكي يمارس دوره في مسجد الضيعة كما دعا غيره الى مساجد أخرى في البلدة ، فصار مسجد الضيعة مركزا لنشاطه يؤدي فيه الصلاة ويخطب يوم الجمعة، واقتصرت مشاركة الوالد على أداء صلاة الأعياد في ذاك المسجد فصار الشيخ موسى يقرأ أدعية القنوت عندما يصلي الوالد كما كنت أقرأها قبل سفري الى ايران.
***
منذ سنوات وقبل ان يفتتح المطار الجديد بين طهران وقم والمسمى بمطار الامام الخميني ، كانت الرحلات الداخلية والخارجية كلها من مطار مهراباد الدولي في غرب طهران الذي سقطت فيه منذ يومين طائرة مدنية بعد ان تم تحويله الى الطيران الداخلي فقط.
وفي احد الأيام كنت في المطار مودعا ووقفت هناك اتحدث مع الحاج عادل عون ابي ياسر وإذ بالشيخ موسى عاصي يدخل الى المطار مغادرا الى بيروت..
عتاب بيننا لعدم معرفتي بقدومه الى قم، وحديث مع الحاج ابي ياسر وهو الذي كان ناظرا عاما لمدرسة جبل عامل عندما كان الشيخ موسى لا يزال تلميذا فيها، وهنا التفت الشيخ موسى بطيبته قائلا..
هل يتساهلون معي بالنسبة للوزن الزائد؟
قلت له يا شيخ موسى.. انظر اذا ذهبت الى ذاك الموظف الملتحي فلن يتساهل معك.
اما اذا ذهبت الى ذاك الحليق فمن الممكن ان يسهل لك امورك.
كنت قد انهيت تسليم الأغراض وصعدنا الى الطابق الثاني قبيل مكان ختم الجوازات للمغادرة ووقفت اودع أبا ياسر والعائلة، وإذ بالشيخ موسى اراه يتصبب عرقا وهو يحمل بيديه مجموعة من الكتب تزيد عن عشرة كتب.
قلت له لعلك لم تسمع نصيحتي، ويبدوا انك ذهبت الى الملتحي، وعندما طلبت منه تسهيل الامر لا شك انه اجابك بمنطق سلبي .. .
فأجابني الشيخ موسى نعم تماما كأنك كنت معنا وظننتك تمزح، ولم يقبل بزيادة كيلو واحد عن الوزن.. حتى حملت هذا المقدار الزائد بيدي..
***
في الأسبوع الأخير من شهر رمضان الماضي، دعاني ابن خالتي الدكتور محمود تامر الى إفطار رمضاني في منزله، والح بالحضور قائلا، انها دعوة مختصرة وليست كبيرة كما كان يحصل في بعض السنوات الماضية.
لبيت الدعوة وكان الإفطار الأخير مع الشيخ موسى عاصي ، كما كان اللقاء الأخير بعده بأيام عند صلاة عيد الفطر..
اسبوعان انقضيا على الإفطار
واثنا عشر يوما على صلاة العيد..
ليصلني بالأمس نبأ رحيلك المؤلم..
يبدوا انه في نفس المكان او بالقرب منه و الذي عشت فيه قبل سنوات حالة الغرق، التي كتبتها بمقالة تحت عنوان:
نعم رأيت الله في البحر
http://kitabati.net/subject.php?id=78
وكانت خاتمة لكتابي ، رحلة في عالم الصلاة
ولتختم هذه الرحلة بصلاة الهدية الى روحك يا شيخ موسى.. وأنهي هذه المقالة فجر يوم الثلاثاء
نعم صدق الله العظيم
وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ
والى روحك الفاتحة. |