رن جرس الهاتف ... وسرعان ما انقطع..
تأكدت من أن الاتصال من العراق وليس من خارجه..
لحظات ويرن رقم عراقي آخر ليس محفوظا عندي...
أسمع صوت الشيخ هادي قبيسي..
نحن بالقرب من الحرم .. أين أنت؟ في الحرم ام في البيت؟
الشيخ حيدر ثم الشيخ هادي وكلاهما غادرا العراق بعد زيارة الاربعين ، ما الذي أتى بهما معا الان..!!
لا بد أن أمرا ما احضرهما ..
أجبته أنا في حرم الامام الحسين عليه السلام .. ماذا لديكم؟
أجابني.. ألم تعرف.. ألم يصلك الخبر؟
عن ماذا تتكلم يا شيخ هادي..
قال .. أحضرنا الان جنازة جدتي ام أحمد وسنزورها العباس عليه السلام ثم نأتي بها الى مقام الحسين عليه السلام ونعود الى النجف الاشرف..
رحمك الله يا ام احمد .. قلت في نفسي.. وذهب بي الخيال بعيدا..
ولكن لأترك ذلك الى وقت آخر.. من معك؟ سألته..
قال.. والدي واخي وآخرون وها نحن سنأتي اليكم..
إذن انا بالانتظار..
كنت في تلك الساعة لا أزال في دار القرآن الكريم في العتبة الحسينية
الساعة تقترب من الثامنة مساء.. كنت أنتظر انتهاء المجلس الحسيني الذي يقرأه في هذه الليلة الشيخ عبد الحميد الغمغام لكي أتجه الى المنزل إذ لا زلت في الحرم منذ الصباح..
أغلقت باب المكتب واتجهت نحو الصحن الشريف لأكون قريبا من باب القبلة حين وصول الجنازة..
شاهدت الحاج أبا سيف خلف مكتبه يدون بعض مذكراته،
ومن لا يعرف أبا سيف من خلال صورته وهو الوحيد الذي يبدل الراية الحمراء بالسوداء في اول محرم من كل عام،
ويقف أمام الخدم في العتبة الحسينية في بداية كل زيارة من بعد ظهر كل يوم ..
دخلت الى مكتبه وسلمت عليه فقام مرحبا ودعاني للجلوس، فأخبرته أني بانتظار جنازة تعز علينا ذكراها..
وما ان عرف حتى وجه نداء عبر الجهاز للاستعداد لاستقبال الجنازة..
خرجنا معا الى باب القبلة بعد أن وصلت السيارتان..
جنازة أم أحمد على سطح احدى السيارتين، وابنها الشيخ حسن وعدد من احفادها في السيارة الاخرى مع آخرين..
استقبلنا الجنازة وراحت بي الذاكرة بعيدا.. الى مثل هذه الايام تماما من عام 1978 م ورحلة العودة الى لبنان مع ام احمد..
سلمت على الشيخ حسن واحفادها الشيخ حيدر والشيخ هادي والشيخ علي ومن معهم وادخلت الجنازة الى الصحن الشريف..
أحد السادة الخدم تقدم ليقرأ الزيارة..
جلسنا جميعا نقرأ معه زيارة الحسين عليه السلام..
شوق الشيخ حسن للزيارة كان اكبر من ان ينتظر انتهاء الزيارة فسبق الجميع الى داخل الحرم الشريف..
انتهينا من الزيارة..وتقدم الحاج ابو سيف ليقول ان الجميع مدعوون لتناول الطعام على مائدة ابي عبد الله الحسين عليه السلام في المضيف..
بقي الجثمان مسجى لوقت اضافي آخر في الصحن الشريف.. ودخل الجميع لأداء الصلاة وبعدها الى المضيف ولنحمل النعش ونطوف به ثلاث مرات مع التهليل والتكبير قبل ان نعود به الى باب القبلة وليتجه الجميع نحو النجف الاشرف..
موعد التشييع غدا في الثالثة بعد الظهر من المسجد الطوسي..
هكذا اخبرني الشيخ حسن..
وهنا عدت الى المنزل لأجلس مع قلمي والذكريات..
من أين أبدأ والى أين يمكن أن أصل..
بجوار المسجد الطوسي حللنا لأشهر عدة مرات بضيافة ام أحمد..
مرة كنت فيها وحيد أبوي.. لم أكن قد وصلت او تجاوزت السنين الثلاث من عمري..
ومرة كان معي التوأم من اخوتي ..علي والشهيدة فاطمة في السنة الاولى من عمرهما..
لا تزال ترتسم في مخيلتي تلك اللوحة الكبيرة على مدخل مقام امير المؤمنين عليه السلام التي كتبت عليها عبارة فهمت معناها عندما تعلمت القراءة .. السلام عليك يا أمير المؤمنين...
اتذكر عندما كنت اقف على شباك الغرفة التي سكنا بها عند أم احمد وهي التي ترعى شؤون عدد من العوائل في ذاك البيت الوسيع.. واخاطب القمر باعثا عبره برسائل السلام .. الى الاهل في لبنان..
كانت الدار ممتلئة بساكنيها..
نحن في غرفة ، وبيت الشيخ علي بغدادي في غرفة وابنها الشيخ حسن في غرفة وابنها المرحوم الشيخ احمد في غرفة.. وبقية اولادها..
كل تلك الذكريات لا تتعدى كونها ذكريات طفل بدأت ترتسم بمخيلته صور الحياة.. التي علقت بها صورة من هنا وصورة من هناك
ان الذكرى الابرز التي تبقى ماثلة ولها موقعيتها هي رحلة العودة من العراق في الايام الاولى من شهر كانون الثاني من عام 1978
أي مثل هذه الايام تماما قبل 35 سنة ..
كانت رحلتي الاخيرة الى العراق ..
ربما كانت رحلتها الاخيرة الى العراق.. رافقتها في طريق العودة وقد غبت 26 سنة قبل ان اعود من جديد..
كانت لرحلتي حكاية لست الان بصدد سردها.. بل ما يعنيني هو ما استذكره من رحلة العودة برفقة ام احمد التي جاءت الليلة جسدا لتسبقنا الى عالم آخر ينتظرنا..
في حلقة اليوم الاذاعية كان قد وردني سؤال عن عالم البرزخ وتحدثت عن وادي السلام حيث أرواح المؤمنين، وهذه ام احمد قد أوصت بأن ينقل جسدها من لبنان لتدفن في النجف الاشرف حيث مهوى الافئدة.. وقد
طلب مني ان اخصص حلقة خاصة لهذا الموضوع في يوم الثلاثاء القادم انشاء الله..
سأتحدث عن عالم البرزخ وعن عالم الارواح وعن وادي السلام..
وسيبقى لي حديث خاص عن تلك الرحلة وتفاصيلها وكيف كان لها دور في انقاذ حياتي ... بعد ان ننتهي اليوم من الدفن ستكون لي عودة انشاء الله..
رحمك الله يا ام احمد... والى روحك الفاتحة
|