• الموقع : كتاباتي- صفحة الشيخ مصطفى مصري العاملي .
        • القسم الرئيسي : كتاباتي .
              • القسم الفرعي : الى كربلاء .
                    • الموضوع : رحلتي الى اعظم حج في التاريخ ...الى كربلاء ، الحلقة 14 (الى سامراء) .

رحلتي الى اعظم حج في التاريخ ...الى كربلاء ، الحلقة 14 (الى سامراء)

الحلقة 14: الى سامراء
نمسك الانفاس في هذا المساء.. نودع أمير المؤمنين في ساعة متأخرة من الليل، إن وجهتنا قبل الفجر نحو سامراء..
تدمع العين ونحن نذكر سامراء.. كيف ستكون سامراء.. وماذا سنرى في سامراء؟
قبل خمس سنوات من الان كانت لنا زيارة الى سامراء..  يعتصر القلب ألما عندما يشاهد تلك المقامات المقدسة وقد أحاط بها من لا يرعى لها حرمة ولا قدسية..
كان ذلك قبل سنوات خمس ..
أما الان فما الذي جرى؟ وماذا حصل ؟ وكيف غدت اكبر قبة ذهبية كانت شاهدا على عصر الطغاة..
إثنان من أئمة الهدى..خلفاء الله على ارضه.. يضعهم طواغيت زمانهم فيما يصطلح عليه في زماننا " الاقامة الجبرية" في معسكر المرتزقة..
علي الهادي والحسن العكسري.. المحاط كل منهما بتلك العساكر.. بعيدا عن مدينة جده.. ممن وصلوا الى الحكم من بني عمهم بعنوان الثأر للحسين.. عليه السلام..
لئن كان بنو أمية قد ابتدؤا عهدهم بسم الحسن ثم بقتل الحسين.. فقد ابتدأ بنوعمهم بنو العباس بسم الصادق وسجن الكاظم حتى الموت وانهوا مآثرهم بسم الهادي وسجن العسكري بين العساكر..
ولكن التاريخ أبى الا ينقل للبشرية خزي المنحرفين ومآثر المتقين، فكانت قبة العسكريين شامخة في سامراء يحج اليها المؤمنون من شتى بقاع الارض.
هكذا غدت سامراء لعقود من السنين بل لقرون مضت.. فغدت منارة يقصدها المحبون ولم يعد للمنارة الملوية التي كان يصعد اليها الطغاة على فرسهم اي اعتبار.
ولكن أحفاد الشياطين الطغاة لم يرق لهم بل لم تستطع نفوسهم ان تتحمل ذاك الاشعاع النوراني من سامراء.. الذي يجذب اليه اتباع أهل البيت، فعمدوا الى نسف ذاك البنيان..
قبة سامراء قد نسفت..
مرقد العسكريين قد فجر..
مئذتنا المقام اللتان بقيتا شاهدتين تهاوتا بفعل تفجير جديد..
يا لهول الجريمة..
وخسئ هنالك المبطلون.
فهل يظن اولئك الطغام ان البنيان هو الذي يشد المؤمنين فهدموه كي لا يزوره احد!
لقد خاب فألهم.. وهاهي جموع الموالين تقبل التحدي وتزحف في كل حين لتقبل التراب المتناثر ، وتلثم الاحجار المهشمة.. وتتبرك بغبار المرقد وبحصاه وبأحجاره الصغيرة..
من قلوب ملؤها الحب والمودة والايمان والاخلاص لاهل بيت رسول الله الذي قال فيهم: قل لا أسألكم عليه اجرا الى المودة في القربى..
هذه المودة تجعلنا نقبل الحجر والمدر ..
اليست الكعبة حجزا يقبله المسلمون في حجهم..
اليس رسول الله (ص) هو القائل : إن حرمة المؤمن عند الله أعظم من حرمة الكعبة..
فكيف بحرمة من اشترط لقبول الصلاة ان نذكرهم ونصلي عليهم في عبادتنا اليومية؟
هل تصح صلاة مسلم لا يقول في صلاته: اللهم صل على محمد وآل محمد؟
وهل هناك غير ائمة الهدى من ينطبق عليهم هذا الوصف؟
إننا سنشد المسير نحو سامراء..قبل الفجر.. فهل ستغمض لنا عين بعد وداع الامير؟
كم صار الوقت ثقيلا.. والزمن بطيئا..
هل نستطيع ان نغفوا أو ان ننام؟ ونحن على موعد في الغد لزيارة تلك البقعة التي غاب منها ولي الله الاعظم؟
لئن كانت ذكرى جده الحسين تؤرق مضجعه وهو يخاطبه قائلا: لاندبنك يا جد صباحا ومساء..
وكما طاولت يد الاجرام يوما قبر جده فحرثته كي تعفي أثره وتمنع المحبين من الوصول اليه، فهي قد عادت مجددا لتعيد نفس الامر مع منزله الذي ولد فيه ومع قبر ابيه وجده..
فكيف كان شعوره؟
ساعات قليلة لم نعرف فيها طعم النوم بل كنا مستيقظين ولا نعرف النوم الى الا لحظات.. حتى كنا جميعا قد جهزنا انفسنا وتوضأنا وغاردنا الفندق بثلاث سيارات ..
عشرون شخصا منا الكبير الهرم ومنا الشاب الفتي، وما بينهما.. قد توزعنا في تلك السيارات التي انطلقت بنا قبل اذان الفجر..
تسير السيارة بنا الى عمق التاريخ... وتضيء مصابيحها امامنا نور الطريق..
لا يهمنا وجود خطر قد يعترضنا ..
ما يهمنا هو ان نصل لنجدد فروض الطاعة والولاء..
قبل ان نصل الى منطقة الحلة... كانت شاحنة كبيرة ، قاطرة ومقطوره تسير أمامنا..
وفوجئ السائق بنقطة تفتيش لا تظهر علائمها قبل المسافة المطلوبة..
انحرف السائق يسارا.. ليتفادى الاصدام بنقطة التفتيش، وأنجاه الله من الانقلاب المؤكد على الجهة الاخرى.. ونجونا من الاصطدام به..
لم يصب أحد من عناصر الحاجز ، وكذلك سائق الشاحنة.. وهكذا كانت الطمأنينة تملأ النفوس.
ونتابع السير في ذاك الليل الحالك المضاء أمامنا بنور العشق والمحبة والولاء.
أين سنصلي صلاة الصبح؟
سنذهب الى مقام شهيد من شهداء قافلة النور عبر التاريخ ، إنه مقام الشهيد زيد..
كم من شهيد سار على القافلة وكم من جسد طاهر زرع في شرق الارض وغربها؟
لم يكن قد حان وقت الاذان بعد، ولم يكن الخادم قد قدم لفتح المقام..
انتظرنا بعض الوقت لكي يفتح الباب بعيد أذان الصبح.. صلينا وانطلقنا عابرين كل تلك المناطق التي اطلق عليها في المرحلة التي تلت تفجير العسكريين مناطق الموت.. أو طرق الموت..
وهل سيخيف الموت أحدا ممن يرضع مع الحليب معنى الصرخة التي اطلقها علي الاكبر في كربلاء .. يا أبتاه ألسنا على الحق.. قال بلى..
قال ..اذن لا هم أوقعنا على الموت ام وقع الموت علينا.
قبيل شروق الشمس نكون قد اقتربنا من بغداد..
سنزور الكاظم والجواد بعد ان نزور الابناء في سامراء..
إن من مات في طوامير السجون ووضع جسده على جسر بغداد والمنادي ينادي هذا امام الرافضة.. قد أصبح مرقده بين أهله ومريديه..
اما الهادي والعسكري فكما كانا أسيرين في حياتهما، فإن قبرهما المدمر اسير عند اناس لم يرعوا إلا وذمة ولا ذمار..
سنصل الى سامراء قبل الكاظمية.. ولكن هناك محطة لا بد من أن نعرج عليها قبل ذلك..
انه مقام السيد محمد.. إبن الامام الهادي.. ذاك الذي ورد في زيارته معنى البداء..( عن الزيارة وقصة البداء)
ندخل الى المقام ونزور ، وعندما أشاهد آليات الجيش المنتشرة لتأمين الحراسة للطريق وللزوار وللعتبات.. يشدني بعضهم الذي يستمع بصوت عال الى لطمية حسينية.. ويتفاعل معها وهو يلطم على صدره، وبندقيته في كتفه..
وعندما يقول لهم حيدر.. الذي الذي استقبلني بسيارته في مطار النجف اننا نرغب بتصويرهم، يزداد حماسهم وتلتهب مشاعرهم اكثر عندما يعرفون اننا من لبنان.. حتى كاد أحدهم ان يطلق النار في الهواء ابتهاجا..
دمعت عيني وانا اشاهد هذه المشاعر واتذكر حادثة حصلت منذ ما يزيد على خمس وثلاثين عاما وقصة الجنود في ذالك اليوم..
كنت فتى على أبواب بلوغ الحلم .. كنا نسكن يومها في آخر شارع الرسول في النجف الاشرف..
وفي صبيحة أحد الايام يقرع الباب فأفتحه لأجد امرأة تسكن بالقرب منا باكية ..
انها تزور والدتي باستمرار ووالدتي تزورها فلا يبعد بيتهم عن بيتنا اكثر من خمسين مترا..او اكثر بقليل.. ولكن ما الذي جاء بها في هذا الوقت ولماذا البكاء..
تسألني هل والدي موجود؟ فيزداد استغرابي..
تدخل الى غرفة الوالدة.. وبعد قليل تأتي الوالدة لتقول.. ان السيد محمد جواد فضل الله لم يعد الى المنزل ولا تعرف زوجته عنه شيئا وهو أمر مستغرب.. وجاءت لتخبر الوالد عله يستطيع عمل شيء..
ارتدى الوالد ثيابه .. وخرجت معه وكانت وجهتنا مركز الشرطة في النجف الاشرف..
كان مركز الشرطة في ذلك الوقت هو مركز البلد ايضا، ولم تكن النجف قد صارت محافظة بل كانت تتبع الى محافظة كربلاء..
انه المكان الذي جرت العادة ان تجري فيه المعاملات القانونية للاقامة والسفر..
دخلت مع الوالد الى ذاك المبنى وانا انظر الى البنادق المصفوفة في المدخل.. انها بنادق نصف آليه برأسها حربة كما صرنا نعرف ذلك فيما بعد.. بنادق من نوع سيمينوف..
أتأمل في تلك البنادق بينما يوجه والدي كلامه للعسكري سائلا عن المسؤول .. وندخل اليه بعد أن نسمع العسكري يبلغه بأن شيخا لبنانيا يريد مقابلتك..
نصل الى غرفة الضابط المسؤول.. ويسأله الوالد..
إننا نبحث عن السيد محمد جواد فضل الله.. منذ البارحة لم يعد الى منزله..
ليس عندنا.. أجاب أحدهم.. ونظر نحو الاخر وكأنه يحكي شيئا بعيونه مع زميله..
لم يكتف والدي بما سمع بل وبنبرة حازمة خاطبهم قائلا:
أين هو إذن  ! ألستم أنتم المسؤولون عن الامن في البلد..
وكأنه أحرجهم وأربكهم بكلامه..
وعندها قال الضابط..إذا أردت أن تعرف فيمكنك ان تراجع في بغداد ..
أي في بغداد ؟ قال والدي..
فأجاب الضابط.. في مديرية الامن ..
كانت كلمة الامن ترعب في العراق.. فالداخل الى هناك مفقود ، والخارج منها مولود..
لم يكن أحد يجرأ على ذكر اسم هذا المركز..
ربما يتمنى اناس الموت على أن يذهبوا الى ذاك المكان..
الموت أهون بكثير من ساعات يقضيها المعتقلون في أقبية الامن العراقي في تلك الفترة..
وهنا أحرج الضابط ثانية ، إذ كان يعتقد أن ذكره لاسم مديرية الامن كفيل بأن يغير لهجة والدي المرتفعة.. ويجعله ينسحب بهدوء.. ولكن لم يكن ذلك ليعني لأبي شيئا فتابع طالبا اعطاء العنوان الدقيق.. وكان له ما أراد..
توجهت برفقة والدي الى بغداد..الى ذاك المكان الذي ذاع صيته ، وتحول الى كابوس..
كان أمرا غريبا أن يذهب رجل دين الى هناك باختياره ومعه فتى ..
نظرات الاستغراب والدهشة تظهر على عيون الجنود والحراس وصولا الى غرفة الضباط المسؤولين..
يستفسر احدهم ما علاقتك به؟
يجيب الوالد انه جارنا..
يتحدث احدهم بصوت منخفض قائلا..من الافضل لك أن لا تتعب نفسك بالسؤال والبحث ..
ويفتح الوالد معهم حديثا.. وكأنه يعضهم .. وفي نهاية المطاف يقول الضابط .. اذن اذهب واسال عنه في المكان الفلاني.. اعتقد ان اسمه كان .. ابو غريب..
لانني اذكر ان اسم المكان قد استوقفني..
وبالطبع رفضوا ان يعطوا اسما او اشارة..
خرجنا من مديرية الامن وهدفنا ان نذهب الى ذاك المكان الذي حسبناه مبنى من مباني العاصمة بغداد..
أوقفنا سيارة تاكسي وعندما نقول له عن مقصدنا يتغير لونه ويعتذر..
أخيرا قال أحد السواق يمكنني ان اوصلكم الى مكان تذهبون منه مشيا الى حيث تقصدون..
وافق والدي على ذلك وركبنا في السيارة حيث خرج بنا السائق من اماكن البنيان العامرة .. ووصل الى مكان صحرواي رملي ليس فيه بنيان.. وقال يمكنكم ان تذهبوا من هنا وتمشون مسافة ربع ساعة او اكثر وعندها تصلون الى المكان المقصود..
توقف الوالد للحظات.. ولكنه قرر ان يسير ، فنزلنا من السيارة وقد عرضنا عليه ان ينتظرنا حتى نعود فأبى وأخذ اجرته وسار باتجاه بينما سرنا نحن في اتجاه آخر..
وبعد مسير مسافة بدا لنا ما يشبه برجا للحراسة.. وكلما اقتربنا اكثر كلما بدأت تظهر لنا الاسلاك الشائكة دون ان نرى بنيانا بارزا..
وعندما اقتربنا اكثر.. عبر تلك الطريق الترابية التي لا تسلكها سوى السيارات العسكرية.. حتى ظهرت لنا معالم معسكر كبير، وهو في الواقع معتقل كبير.. ولا ندر كم هو عمقه في باطن الارض..
لحظات استنفار عاشها العسكري الذي شاهدنا قبل ان نصل.. ولا شك أنه قد أبلغ مسؤوليه عما يشاهده.. يبدو ان ذلك امر مستغرب لديهم..
وما ان وصلنا بالقرب من ذاك الباب وطلب والدي مقابلة المسؤول.. كما حصل في مركز الشرطة في النجف وفي مديرية الامن في بغداد وها نحن قد وصلنا الى نهاية المطاف الذي نبحث عنه، نعتقد انه صار بامكاننا ان نشاهد السيد محمد جواد ونطمئن عنه لكي نطمئن زوجته.. ولكن ما حصل كان غير ذلك..
فلم يسمح لنا العسكري بالدخول بل استدعى ضابطا خرج لمقابلتنا عند الباب وعندما كرر والدي الكلام الذي قاله.. مستفسرا عن السيد..
اجاب ذاك المسؤول .. من قال لك انه عندنا؟ وأجاب بشيء من السخرية والاستهزاء.. بعد ان التفت نحو المعسكر ونادى بصوته.. محمد جواد..محمد جواد..
ثم التفت الينا وقال .. ها انذا ناديت.. ولم يجب أحد.. إنه ليس عندنا..
لقد بلغنا في مسيرنا الى منتهاه ، وصار لزاما علينا أن نعود من حيث أتينا..
وعدنا في تلك الطريق الرملية الصحراوية القاحلة التي لا يشاهد عليها احد..
يمكنك ان تتصور نفسك في ذاك الموقف وذاك المكان.. ولخيالك ان يحلق بك حيث شاء..
سرنا مسافة راجعين على نفس الطريق الذي سلكناه، وإذ بسيارة عسكرية تخرج من المعسكر على نفس الطريق باتجاهنا..
لا أدر ما هي الافكار التي دارت برأس والدي..
وما أن وصلت بالقرب منا والغبار وراءها يملأ السماء حتى توقفت بجانبنا ..وكان فيها الى جانب السائق جندي ، وقد التفت الينا قائلا من أنتم ؟ وأين كنتم؟ وبعد أن سمعا الحكاية تشاورا فيما بينهما وقال: اصعدا..
فصعدنا بالخلف في تلك السيارة التي تابعت مسيرها الى أن وصلنا الى الاسفلت فتوقف السائق وقال : انزلا هنا ويمكنكم الذهاب بسيارة تاكسي..
تذكرت هذه القصة التي حصلت قبل حوالي 35 سنة وأنا اشاهد السيارة العسكرية امامي والجنود العراقيين وهم يستمعون الى الاناشيد الدينية ويرغبون بأن يأخذوا معنا صورا تذكارية..
دمعت عيني مجددا وقلت اللهم لك الحمد.. يا من يهلك ملوكا ويستخلف آخرين.. وفق محبي أهل البيت لكي يحفظوا ما وصلوا اليه من نعم الى انتظار اليوم الموعود الذي سيبدله الله تعالى من الخوف الى الامن ..
وللحديث تتمة...


  • المصدر : http://www.kitabati.net/subject.php?id=105
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2010 / 04 / 27
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28